الصفحة السابقة بيان المحتويات الصفحة التالية

إدماج الاهتمامات الخاصة بالأمن الغذائي في اتفاقية الزراعة لدى تعديلها  (4)

تقول هذه الورقة إن دور الزراعة في تعزيز الأمن الغذائي في البلدان النامية يختلف اختلافاً جوهرياً عنه في البلدان المتقدمة، وهي حقيقة لا تعترف بها تماماً اتفاقية الزراعة في شكلها الحالي. ومن هنا كانت المناداة بضرورة أن يسمح للبلدان النامية، ولا سيما التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي، بقدر من المرونة أكثر مما تنص عليه اتفاقية الزراعة في الوقت الحاضر، لكي تمضي هذه البلدان في تحديث الزراعة وتستطيع تلبية أهدافها في مجال الأمن الغذائي.

1. دور الزراعة في البلدان النامية في تعزيز الأمن الغذائي

أشارت تقديرات منظمة الأغذية والزراعة إلى أن 826 مليون نسمة كانوا يعانون من نقص التغذية في الفترة 1996-1998، منهم نحو 792 مليون نسمة يعيشون في البلدان النامية. وعلى الرغم من أن هذا الرقم انخفض بنحو 40 مليون نسمة فيما بين 1980-1982 و 1995-1997، لم يكن هذا التحسن متوازناً، فقد كان يُعزى إلى انخفاض عدد من يعانون من نقص التغذية بنحو مائة مليون نسمة في 37 بلداً في الوقت الذي ارتفع عددهم بنحو 60 مليون نسمة في بقية البلدان. وعلى الرغم من زيادة توافر الأغذية المخصصة للاستهلاك البشري المباشر بنسبة 19 في المائة فيما بين 1960 و1994-1996، كان هناك تفاوت شديد فيما بين البلدان. وعلى سبيل المثال، فإن نصيب الفرد من إنتاج الأغذية في البلدان الأقل نمواً اتجه نحو الانخفاض على مدى السنوات الأربعين الماضية بينما ارتفع بنسبة 40 في المائة في البلدان النامية ككل(5). وفيما بين 1980 و 1996، انخفض نصيب الفرد في 29 بلداً من البلدان الأقل نمواً وعددها 42 بلداً.

وعلى ضوء التحليلات الدقيقة التي أجريت على العوامل الرئيسية التي تكمن وراء هذه الاتجاهات (كما تدل على ذلك 14 دراسة حالة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة) قالت المنظمة إنه "لا يمكن تحقيق تقدم ملموس في دفع عجلة النمو الاقتصادي، والتخفيف من حدة الفقر وتعزيز الأمن الغذائي في معظم الحالات دون زيادة النهوض بإمكانيات القطاع الزراعي وزيادة مساهمته في تحقيق التنمية الاقتصادية العامة"(6). وهذا الرأي يؤيده عدد من الدراسات الحديثة(7) التي أوضحت أن زيادة الإنتاجية الزراعية في كثير من المناطق الريفية شديدة الفقر كثيراً ما تنطوي على أعظم إمكانيات تحقيق النمو الذي يؤدي إلى التخفيف من حدة الفقر، إما عن طريق تحقيق زيادات مباشرة في الدخل وروابط غير مباشرة في الإنفاق من إنتاج السلع القابلة للتبادل التجاري أو من خلال المنافع التي تعود على المستهلكين في إنتاج الخدمات غير القابلة للتبادل التجاري(8). ولذلك، كثيراً ما تتأثر مؤشرات الأمن الغذائي بشكل مباشر بالنجاح النسبي الذي تحققه مبادرات التنمية الريفية سواء من حيث زيادة المتاح من الإمدادات الغذائية المحلية والعمل على استقرارها أو تعزيز قدرة الفرد على الحصول على الغذاء.

والتحسينات المتوقعة في نظام الحوافز التي تقدم للمنتجين في البلدان النامية، وبالتالي تحسين إمكانيات التنمية الريفية، تبرر جزئياً تحرير التجارة. غير أنه ليس من المحتمل أن يكون لذلك تأثير إيجابي مباشر بالنسبة لبعض البلدان النامية بسبب معوقات العرض وعدم قدرة المنتجين فيها على الاستفادة من الفرص التجارية الجديدة وخوض المنافسة في أسواقهم أمام الواردات التي مازال بعضها يستفيد من الدعم وغير ذلك من الممارسات الأخرى غير التنافسية.

2. تدابير السياسات اللازمة لتعزيز الأمن الغذائي

وقد أوضحت تجارب التنمية خلال السنوات الخمسين الماضية بما لا يدع مجالاً للشك أن انتشار الفقر وانعدام الأمن الغذائي بالمناطق الريفية في البلدان النامية كانت في جانب كبير منها نتيجة لاستراتيجيات التنمية التي تغاضت عن أهمية تنمية القطاع الزراعي، وخصوصاً إنتاج الأغذية الأساسية.(9) كذلك أظهرت التجارب أن تعزيز الأمن الغذائي في البلدان النامية يتطلب مجموعة من السياسات مُعدة بعناية وقابلة للتطويع تعالج بطريقة متكاملة جوانب العرض، والتوزيع والاستهلاك في السلسلة الغذائية.

وهناك عدد من العوامل التي تعوق خيارات السياسات المتاحة أمام البلدان الفقيرة، من بينها: (أ) قلة الموارد المخصصة لبرامج الإنفاق العام؛ (ب) ومشكلة الأسعار التي تكون مُجزية للمنتجين والأسعار التي يستطيع عدد كبير من الأسر الفقيرة تحملها - الأمر الذي يجعل خيار الحماية الحدودية أقل إغراءً، على الرغم من ارتفاع التعريفات المربوطة(10)؛ (ج) وضآلة النقد الأجنبي المتوافر مما يؤدي إلى ضغط من أجل تعزيز إنتاج المحاصيل التصديرية. ومع ذلك، فإن توجيه الموارد نحو قطاعات التصدير قد لا يضمن على الدوام توافر النقد الأجنبي الذي يكفي لتغطية قيمة الواردات الغذائية(11). وبالتالي، كثيراً ما تكون الاستعاضة عن الواردات خياراً أفضل من ترويج الصادرات، من وجهة نظر الأمن الغذائي.

وفيما يلي استعراض موجز لبعض تدابير السياسات التي استخدمتها البلدان من أجل تعزيز الأمن الغذائي على مستوى الأسرة أو على مستوى الأفراد، سواء بشكل مباشر (عن طريق برامج زيادة استهلاك الغذاء وتوجيه المساعدات نحو الفئات المستحقة) وبشكل غير مباشر عن طريق البرامج الزراعية والسياسات التجارية. وأهم هذه السياسات هي السياسات التي تؤثر على استخدام مستلزمات الإنتاج، في وجود دعم الأسعار، وتُعنى بزيادة استهلاك الغذاء.

دعم الأسعار

يكون دعم الأسعار إماّ عن طريق التدابير الحدودية وحدها أو الربط بين التدابير الحدودية وترتيبات الأسعار المحلية (مثل أسعار التوريد، والأسعار الدنيا المضمونة، وأسعار التجزئة المستهدفة). وأحياناً تؤدي الأسعار التحكمية - التي تسمح بزيادة طفيفة في الأسعار التي يحصل عليها المزارعون - إلى الحد جزئياً من تأثير السياسة الحدودية (مثل فرض قيود على الصادرات) مما يؤدي إلى خفض الأسعار التي يحصل عليها المزارعون في محاولة للإبقاء على أسعار الأغذية في السوق المحلية في متناول المستهلكين. ومع ذلك، فإن التدابير الحدودية (مثل التعريفات) تعد عادة استكمالاً للأسعار التحكمية وبالتالي قد تكون الأسعار التي يتحملها المستهلكون أعلى من الأسعار العالمية المقابلة لها.

وتبعاً للربط بين التدابير الحدودية والسياسات السعرية المحلية، يمكن أن تجد المجموعات المختلفة أن أمنها الغذائي يتأثر بشكل مختلف. وهكذا، فإن الترتيبات التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار في السوق المحلية تفيد المزارعين وتضر بالمستهلكين. ويمكن التقليل من تأثير ذلك عن طريق سياسات دعم الأسعار الموجه نحو فئات معينة (مثل صرف الأغذية بالبطاقات، وإقامة المحلات التي تبيع بأسعار منصفة، وتدابير تحويل الدخل إلى الفقراء) ولكن ذلك يكون على حساب تكلفة كبيرة تتحملها ميزانية الحكومة، وهذا ما لا تستطيعه البلدان شديدة الفقر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي. كذلك فإن تثبيت الأسعار العالمية بالنسبة للمستهلكين مع تقديم الدعم للمزارعين يفرض ضغوطاً مماثلة على ميزانية الحكومة، وإن كان من الممكن أحياناً تعويضها إلى حد ما في حالة المواد الغذائية المستوردة من الإيرادات الناتجة عن رسوم الواردات.

ولا يختلف الوضع بالنسبة للمنتجات التصديرية عن الوضع الخاص بالبضائع المستوردة. فكثيراً ما كانت الضرائب تُفرض على الصادرات في الماضي للمساعدة في الإبقاء على الأسعار المحلية منخفضة (مثل سياسة الأسعار التي وضعتها تايلند في السبعينات من القرن العشرين وضريبة الصادرات المتغيرة على زيت النخيل في إندونيسيا)، ولكن ذلك يكون عادة على حساب مصلحة المزارعين الذين يكونون في كثير من الحالات أكثر فقراً من سكان المناطق الحضرية. وعلى النقيض من ذلك، فإن السياسات التي تعزز الصادرات عن طريق الدعم يمكن أن تزيد من دخل المزارع وإن كان ذلك على حساب الميزانية الحكومية والمستهلكين. ويمكن استخدام دعم الصادرات في تعزيز النفاذ إلى الأسواق فضلاً عن أنه يعد خياراً مفيداً في التخلص من الفوائض غير المعتادة التي تحدث في السنوات التي يجود فيها المحصول(12). وعلى الرغم من أن استخدام دعم الصادرات شائع في البلدان المتقدمة فإن معظم البلدان النامية لا يلجأ إلى دعم الصادرات.

وعلى الرغم من تعقيدات السير في سياسة سعرية نشطة من أجل تحقيق الأمن الغذائي، يجب ملاحظة أنه بالنسبة للمنتجات الغذائية المستوردة يمكن أن تكون طريقة الجمع بين التعريفات التي تعزز الأسعار التي يحصل عليها المزارعون واستخدام الإيرادات التي تتحقق من رسوم الاستيراد في تمويل سياسات المعونة الغذائية متوافقة مع قواعد منظمة التجارة العالمية فضلاً عن كفاءتها من حيث خفض مستوى الفقر وانعدام الأمن الغذائي في الريف. ومع ذلك، فمن المشكوك فيه أن تكون المبالغ المالية التي تُحصلها الحكومة من التعريفات كافية للتعامل مع مشكلة انعدام الأمن الغذائي التي يعاني منها المستهلكون بكامل أبعادها في البلدان شديدة الفقر، ومن الأرجح أن ذلك سيتطلب موارد إضافية لتحقيق التوازن السليم. وجميع السياسات التي سترد مناقشتها فيما يلي تترتب عليها أعباء قد لا يستطيع كثير من هذه البلدان تحملها.

دعم مستلزمات الإنتاج الزراعي

كثيراً ما يستخدم دعم مستلزمات الإنتاج الزراعي في تعويض انخفاض الأسعار التي يحصل عليها المنتجون. والمعتاد هو أن يشمل الدعم بنوداً مثل الأسمدة، والبذور والوقود. ومع ذلك، فما لم يكن هذا الدعم موجهاً بعناية نحو الفئات المستحِقة فإنه يمكن أن يتخطى المنتجين الفقراء، وعندئذ قد تكون التحويلات غير اقتصادية لأنها قد تكون في صالح المزارعين المقتدرين. وتوضح التطورات التي حدثت في إنتاج الذُرة في ملاوي مدى كفاءة توجيه الدعم، حيث تم تحرير الأسعار وأعيد العمل بنظام دعم الأسمدة في أوائل التسعينات من القرن العشرين. وقد أسفر ذلك عن زيادة إنتاج الذُرة بنسبة 70 في المائة بالنسبة لصغار المنتجين وحدوث زيادات كبيرة في استخدام الأسمدة(13).

ويمكن أن يساعد تسهيل الحصول على الأصول الرأسمالية الثابتة (مثل الآلات المستوردة، ومرافق التخزين على مستوى المزرعة) على زيادة الإنتاجية وخفض خسائر ما بعد الحصاد. ومن أمثلة ذلك برنامج الاستثمارات الزراعية في زامبيا الذي يقدم منحاً (بمساعدات أجنبية) توازي ما تنفقه مجموعات المزارعين من أجل إقامة مرافق البنية الأساسية في مَزارعهم.

ولا يندرج الاستثمار في مرافق البينة الأساسية ضمن مقياس الدعم الكلي في الوقت الحاضر، وكثيراً ما يكون هذا النوع من الاستثمار بمثابة إعانة للمنتجين. ففي سري لانكا، على سبيل المثال، توفر الحكومة للمزارعين مرافق الري وتقوم بصيانتها دون مقابل. وتشير التقديرات إلى أن إعانات الري كانت تمثل نسبة 3 في المائة من مجموع قيمة إنتاج الأرز الشعير في 1995. وفي مصر، يُنظر إلى إدخال تكنولوجيا الري المتقدمة على أنه من الأمور الأساسية لزيادة كفاءة استخدام المياه(14). كذلك يمكن أن يكون الاستثمار في مرافق البنية الأساسية من أجل أغراض الصيانة. ففي جنوب أفريقيا، قدمت الحكومة قروضاً مدعمة أو بأسعار فائدة منخفضة بموجب قانون صيانة الموارد الزراعية.

التدخل لتصحيح جوانب الفشل المؤسسية

حيثما لا تعمل الأسواق بشكل جيد، مثلما يكون الحال عند الافتقار إلى المعلومات الخاصة بالأسواق، أو وجود احتكار لعمليات الشراء والبيع، أو وجود تدخل سياسي، قد لا تتحقق الاستجابة المتوقعة من جانب العرض. وهنا قد يسفر ترويج و/أو تعزيز المؤسسات التي تنظم حصول فقراء المنتجين على مستلزمات الإنتاج الزراعي ودخولهم إلى أسواق بيع المنتجات عن تأثير كبير بتكلفة منخفضة نسبيا على الحكومة. ويمكن أن يؤدي تعزيز مؤسسات الائتمان، عن طريق التأثير على الحوافز التي يواجهها وسطاء التسويق وتمويل تكاليفهم، عن توفير تمويل موسمي يمكن الاعتماد عليه أكثر من غيره(15). وكثيراً ما تكون حيازة الأراضي ومؤسسات التمويل الريفي عظيمة الأهمية، حيث تساعد حيازة الأراضي على الحصول على مزيد من الأراضي المنتجة والاستثمار في الأرض وتحسين القرارات التي تتخذ بشأن استغلالها وزيادة الربط بينها وبين الاستهلاك، بينما تساعد مؤسسات التمويل الريفي على تشجيع الاستثمار، وخصوصـاً في مستلزمات الإنتاج الموسمية(16). وعموماُ، فإن توفير المؤسسات المحسنة، والأطر التنظيمية والتدريب أمر ممكن ولكنها قد تتطلب إعانات في البداية.

سياسات استهلاك الأغذية

كان دعم الأغذية الشعبية من بين أكثر السياسات انتشاراً من أجل تحقيق الأمن الغذائي على مر السنين. ولكي يكون ذلك متوافقاً مع اتفاقية الزراعة، يجب أن تكون الكميات وعملية التجميع بما يتفق مع أهداف محددة سلفاً تتصل بالأمن الغذائي فقط. ويجب أن تكون المشتريات الحكومية بالأسعار الجارية في السوق كما يجب أن تكون المبيعات من المخزونات بأسعار لا تقل عن الأسعار الجارية في السوق المحلية بالنسبة للمنتجات المعنية ونوعيتها. ويجوز للبلدان النامية شراء السلع وتصريفها بأسعار تحكمية، بشرط حساب الفرق بين السعر التحكمي والسعر المرجعي الخارجي في مقياس الدعم الكلي. وفي واقع الأمر، فإن هذا لا يمثل أي معاملة خاصة لأن أي بلد يستطيع أن يمضي في مثل هذه السياسة بشرط حساب ما يرتبط بها من نفقات في مقياس الدعم الكلي.

ومثل هذه الخطط تُحمل الحكومة تكاليف إضافية من حيث تكاليف تجميع السلع، وتخزينها، ومتابعة الأسعار والتوزيع. ومن الممكن أن يساعد تشجيع قيام القطاع الخاص بعمليات التخزين والتسويق على إيجاد آلية لتحمل هذه التكاليف نيابة عن الحكومة، كأن يكون ذلك بخفض الحواجز أمام دخول الأسواق وتحسين مرافق البينة الأساسية ومعلومات الأسواق.

وعلى الرغم من اللجوء إلى هذه السياسات كثيراً في الماضي، فإنها أصبحت محل تحليلات نقدية في الفترة الأخيرة نظراً للارتفاع النسبي لتكاليفها. ومع ذلك، ففي الأوضاع التي يتعرض فيها التوافر المادي للأغذية للخطر، يمكن أن يكون لهذه المخزونات بالإضافة إلى السياسات التجارية دورٌ له قيمته.

ولا تخضع عملية توفير الأغذية، أو تمكين المستفيدين الذين تنطبق عليهم الشروط من شرائها بأسعار السوق أو بأسعار مدعمة، لضوابط من جانب منظمة التجارة العالمية، إذ هي لا تتعارض مع مصالح المُصدرين لأنها تشجع التجارة. وعلى الرغم من إمكانية التقليل من تسرب هذه السلع إلى غير مستحقيها عن طريق تحديد الفئات المستهدفة، فإن ذلك يرتبط عموماً بارتفاع التكاليف الإدارية. وغالباً ما تعتمد كفاءة الدعم الذي يحصل عليه المستهلكون على نوع الأغذية التي يقع عليها الاختيار. وعلى سبيل المثال، فإن الدولار الواحد الذي يُنفق في البرازيل على دعم الخبز يؤدي إلى تحويل نحو 0,18 دولار إلى المستهلكين ذوي الدخل المنخفض، بينما يؤدي إنفاق نفس المبلغ على دعم البقول إلى تحويل نحو 0,39 دولار(17), ويمكن أن يؤدي دعم النوعيات المنخفضة إلى زيادة فعالية دعم الأغذية.

ويوجد عدد من السياسات الأخرى التي تستخدم في توفير شبكات أمان في مجال الأمن الغذائي في البلدان النامية. ومن أمثلة ذلك البرامج الهادفة لتوفير فرص العمل لفئات معينة، أو برامج الغذاء مقابل العمل، التي توفر شبكة أمان ويمكن أن تساعد أيضاً على إقامة مرافق البنية الأساسية مثل الطرق الفرعية بالمناطق الريفية، ومرافق التخزين ومرافق الري. ومع ذلك، فإن هذه المشروعات غالباً ما تكون مُكلفة، ولذلك ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار ندرة الموارد المالية لدى البلدان النامية عند تحديد المعايير التي تنظم برامج شبكات الأمان.

3. تحقيق أهداف الأمن الغذائي: التشويه في مواجهة تحقيق الكفاءة

يتضح من المناقشة السابقة وجود مجموعة من أدوات السياسات التي يمكن استخدامها في زيادة الإنتاج من أجل دعم أهداف الأمن الغذائي في البلدان النامية. وعندئذ يكون التركيز على تحديد آليات زيادة الدعم للإنتاج المحلي بطريقة كفء في ظروف المعوقات الداخلية القائمة، والإبقاء، في نفس الوقت، على خيار استخدام التدابير التي تنطوي على تكلفة أعلى في حالة توافر الموارد التي تغطي ذلك في المستقبل.

والمعايير الرئيسية التي يتم على أساسها تقييم تدابير السياسات البديلة هي الكفاءة، والفعالية، والتكاليف والإنصاف. والكفاءة تعنى بالتغيرات في حجم التجارة الناجمة عن أي تغيير في الإنتاج المحلي وأي تأثير على مستوى الأسعار في السوق المحلية أو السوق العالمية وتباينها. وتعنى الفعالية بالتأثير على حالة الأمن الغذائي على المستوى الوطني وعلى مستوى الأسرة في المدى القريب، ومدى تشجيع ذلك للتنمية الريفية بصفة أعم، وبالتالي التأثير على الأمن الغذائي في المدى البعيد. ويمكن تقييم تكاليف السياسات المختلفة من حيث العبء الذي تتحمله الحكومة والأعباء التي يتحملها المستهلكون والمنتجون. أمّا تأثير هذه التدابير على الإنصاف فيعنى بجوانب القوة النسبية لهذه المعايير من حيث قدرتها على استهداف الفقراء من المنتجين والمستهلكين.

ومعظم السياسات لها بعض التأثير على حجم التجارة إمّا بشكل مباشر، أو عن طريق زيادة الحوافز للمنتجين المحليين. ومع ذلك، فمن الضروري، لدى تحديد أهمية التأثير النسبي لهذه السياسات على التجارة، مراعاة "حجم" البلد، أو مجموعة البلدان، في السوق العالمية. ومن المفترض أن البلدان التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي، بما في ذلك البلدان الأقل نمواً، ستكون عموماً أقل من إحداث تشويه في معظم أسواق السلع الزراعية. وفي الحالات التي لا يكون هذا الافتراض سليماً فيها، يمكن اللجوء إلى تحديد حد أقصى لحصة البلد في السوق كما هو مبين في المادة 27 من اتفاقية الإعانات وتدابير الرسوم الجمركية التعويضية.

وبالإضافة إلى تحديد حد أقصى لحصة البلد في السوق كما هو منوه عنه فيما سبق، هناك قضية أخرى وهي ما إذا كانت البلدان النامية - بخلاف البلدان التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي والبلدان الأقل نمواً - التي توجد لديها قطاعات زراعية كبيرة قادرة على المنافسة وتنتج نسباً كبيرة من صادراتها أو بدائل المنتجات المستوردة ينبغي أن تُستبعد من الاستثناءات التي تكون استناداً إلى اعتبارات الأمن الغذائي. وقد وُضِعَت عدة أنماط للبلدان النامية من حيث تأثير تحرير التجارة، ولكن هذه الأنماط لم تناقش هيكل الزراعة داخل هذه البلدان(18). وكما سبق التنويه، تعد مساهمة الزراعة في تحقيق التنمية الريفية وبالتالي في تحقيق الأمن الغذائي في المدى البعيد مساهمة كبيرة، ولذلك يمكن القول إن الاستثناءات لا ينبغي أن تُمنح على أساس صافي الوضع التجاري للبلد أو هيكله الزراعي، بل على أساس المستوى الحالي للتنمية كما يتضح من مدى انعدام الأمن الغذائي.

أمّا من حيث التأثير على الأمن الغذائي، فإن السياسات السعرية يمكن أن تكون تأثيراتها مختلطة، كما سبق التنويه، تبعاً لما إذا كانت البلدان التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي هي في الأساس من البلدان المنتجة الصافية أو المستهلكة الصافية للغذاء، وخصوصاً في ضوء النفقات الكبيرة التي كثيراً ما تتحملها الميزانيات الحكومية للتوفيق بين الاهتمامات والمصالح المختلفة. ولذلك، قد يكون من الأفضل اللجوء إلى تدابير السياسات التي تشجع على تحسين الإنتاجية دون أن يكون لها تأثير ضار على المستهلكين. فإذا أمكن توجيه دعم المستلزمات نحو محاصيل معينة، فمن الممكن أن تكون تكاليف إدارة الدعم أقل ولكنه قد يؤدي إلى تشويه في استخدام الموارد. بيد أن هذه التشوهات يمكن تقييمها أمام المنافع المترتبة على زيادة الإمدادات من محصول يسهم مساهمة كبيرة في تحقيق الأمن الغذائي. ويبدو أن التدخلات التي تستهدف تصحيح فشل الأسواق توفر فرصاً قليلة التكلفة لتعزيز الأمن الغذائي على مستوى الأسرة وعلى المستوى الوطني في المدى القريب والمدى البعيد، وخصوصاً عندما تساعد على إزالة التشوهات التي لا تشجع على الإنتاج. ومن المحتمل أن تكون التدابير الحدودية ودعم أسعار السوق غير منصفة نسبياً من حيث إن السياسة التجارية تحابي السلع التي تُطرح في الأسواق، وبالتالي فإنها تحابي المزارعين المقتدرين. فدعم السلع التي لا تُطرح في الأسواق وكذلك دعم مستلزمات الإنتاج له تأثير أفضل من حيث تحقيق مزيد من الإنصاف، كما أن له تأثيراً شاملاً على الأمن الغذائي على المستوى الجزئي.

وباختصار، فإن التدابير التي تستخدم لتعزيز المؤسسات التي تنظم الحصول على مستلزمات الإنتاج – وهذا ما قد يقترن بتقديم دعم لمستلزمات الإنتاج – من المحتمل أن تمثل أنجع السبل وأقلها تشويهاً من حيث تعزيز الأمن الغذائي. ومن المحتمل أن تكون السياسات التي تُنفذ من أجل دعم إنتاج الأغذية الأساسية المحلية أفضل من السياسات التي تركز على السلع القابلة للتصدير. وعندما يكون ذلك مطلوباً، فإن تدابير السياسات التي توفر حوافز أفضل للمنتجين عن طريق دعم أسعار مستلزمات الإنتاج قد يكون من الممكن تنفيذها عن طريق التدابير الحدودية بشكل أفضل من الخيار الخاص بدعم أسعار المنتجات حيث تعد إدارته أكثر تعقيداً. ومع ذلك، فإن التأثير الأكبر الذي تحدثه الحوافز التي تُقدم للمنتجين على الأسعار التي يتحملها المستهلكون قد يحد من استعمالها ما لم يقابلها دعم هادف للمستهلكين. وقد يكون الربط بطريقة حكيمة بين هذه التدابير هو أنسب طريقة لتحقيق أفضل النتائج من حيث الكفاءة، والفعالية، والتكاليف والإنصاف.

4. زيادة مرونة السياسات في البلدان النامية

يعزز التحليل السابق قضية التوسع في استخدام السياسات في تشجيع الزراعة في البلدان النامية من أجل تعزيز أمنها الغذائي. ولكن إلى أي مدى تعد هذه السياسات متوافقة مع اتفاقية الزراعة إذا تقرر إعادة التفاوض فيها؟

وتدعو البلدان المتقدمة في المقترحات التي تقدمت بها في الفترة الأخيرة إلى تضييق معايير الاستثناء. إذ تدعو الولايات المتحدة إلى التفرقة بين تدابير الدعم التي تؤدي إلى تشويه الأسواق والتدابير التي لا تؤدي إلى تشويه الأسواق، كما تدعو إلى وضع معايير للتدابير التي لا تؤدي إلى تشويه الأسواق بما يضمن أن تكون هذه التدابير هادفة، وشفافة ولا تؤدي في الواقع إلى تشويه التجارة. أمّا النرويج فقد اقترحت تصنيف السياسات التي يشملها حساب مقياس الدعم الكلي إلى فئتين (1) السياسات التي تقوم على تقديم الدعم المحلي للإنتاج من أجل السوق المحلية – وهذه تخضع لالتزامات خفض أقل تشدداً؛ (2) والدعم الذي يقدَّم في إطار مقياس الدعم الكلي للإنتاج المخصص للتصدير – وهو ما ينبغي إخضاعه لمزيد من التخفيضات. وعلى النقيض من المقترحات، تطالب معظم البلدان النامية، وأخصها الهند، بأن تكون الاستثناءات أكثر استجابة لاحتياجات البلدان النامية الخاصة.(19)

وعلى الرغم من أن تصنيف التدابير على غرار ما تقترحه الولايات المتحدة أو النرويج قد يوفر مزيداً من الوضوح ويكون أقل عرضة للانتهاك في إطار القواعد التي تنص عليها اتفاقية الزراعة الحالية، يمكن الدعوة إلى آلية تتيح للبلدان النامية مزيداً من المرونة وتعترف بالاختلافات الجوهرية فيما بينها فيما يتعلق بهدف الأمن الغذائي. ونظراً لأن البلدان النامية ليست كلها من البلدان التي تواجه مشكلات في مجال الأمن الغذائي، وإن كان من المفترض أنها جميعاً في حاجة إلى دعم التنمية الريفية فيها، يمكن النظر في نوعين مختلفين من الاستجابة على مستوى السياسات في مفاوضات منظمة التجارة العالمية.

(أ) فالبلدان النامية التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي، يمكن أن تُمنح نفس الاستثناءات الممنوحة بالفعل للبلدان الأقل نمواً، الأمر الذي يسمح لها بزيادة مقياس الدعم الكلي للسلع ذات الأهمية الحرجة في تحقيق الأمن الغذائي، ما لم يؤد ذلك إلى حصولها على حصة من السوق العالمية في أي سلعة تتجاوز مستوى معيناً تمشياً مع المادة 27 من اتفاقية الإعانات وتدابير الرسوم الجمركية التعويضية.

(ب) يمكن أن يُسمح لجميع البلدان النامية الأخرى برفع مستوى الحد الأدنى المسموح به للدعم (وربما يكون ذلك مقصوراً على السلع ذات الأهمية الحرجة في تحقيق الأمن الغذائي) إلى مستوى جديد يُتفق عليه، وتوسيع نطاق دعم مستلزمات الإنتاج ودعم الاستثمار ليشمل جميع المزارعين الذين ينتجون السلع ذات الأهمية الحرجة في تحقيق الأمن الغذائي. كذلك، يمكن إعادة التفاوض بشأن التعريفات المربوطة على المحاصيل الغذائية دون أن تصاحب ذلك تنازلات مقابلة في أي بند آخر؛ كما ينبغي أن تُمنح حق الاستفادة من التدابير الوقائية الخاصة في مجال السلع الغذائية.



4 من إعداد قسم التجارة والسلع بمنظمة الأغذية والزراعة، استناداً إلى ورقة مطولة اشترك في إعدادها Richard Pearce و Jamie Morrison للعرض على اجتماع المائدة المستديرة الذي عقدته المنظمة عن "الأمن الغذائي في سياق مفاوضات منظمة التجارة العالمية الخاصة بالزراعة"، جنيف، 20 يوليو/تموز 2001.

5 أنظر:

OECD (2000). Issues at Stake in Agriculture for Emerging and Transition Economies in the Multilateral Trade Negotiations. COM/AGR/APM/TD/WP(2000)24. Paris, OECD

6منظمة الأغذية والزراعة (2000)، الزراعة، والتجارة والأمن الغذائي: القضايا المطروحة والخيارات المتاحة في مفاوضات منظمة التجارة العالمية من منظور البلدان النامية. المجلد الثاني - دراسات الحالة القطرية. الجزء الأول، صفحة 5، روما.

7 أنظر:

Kydd, J., Dorward, A., Morrison, J.A. and G.Cadisch (2001) The Role of Agriculture in Pro Poor Economic Growth in Sub Saharan Africa. Paper prepared for DFID.

8 كانت القدرة على المضي في تحقيق أهداف التنمية الريفية كسبيل لتعزيز الأمن الغذائي تمثل موضوعاً رئيسياً لكثير من الاقتراحات الأخيرة. فالاقتراح الهندي يطالب بمزيد من المرونة في تقديم الدعم لمستلزمات الإنتاج الزراعي "حيثما تكون الإنتاجية أدني من المتوسط العالمي". وبالإضافة إلى ذلك، تشير هذه الاقتراحات إلى أن "التدابير التي تتخذها البلدان النامية الأعضاء من أجل التخفيف من حدة الفقر، وتحقيق التنمية الريفية، وزيادة فرص العمل في الريف وتنويع الإنتاج الزراعي ينبغي أن تستثنى من التزامات التخفيض". وبالمثل، تقترح كوبا وبلدان أخرى "دعم تدابير تحسين القدرة على المنافسة وزيادة طاقة الإنتاج المحلي في البلدان النامية". وقد دعت كوبا وغيرها من البلدان إلى إنشاء ما يسمى "صندوق التنمية"، وهي بذلك تدعو إلى استثناء التدابير التي تحمي وتعزز قدرات البلدان النامية على إنتاج الأغذية وخصوصاً الأغذية الأساسية الرئيسية.

9 منظمة الأغذية والزراعة (2000)حالة الأغذية والزراعة: الدروس المستفادة من الخمسين سنة الماضية، منظمة الأغذية والزراعة، روما، 2000.

10 يوجد في الواقع اختلاف كبير بين التعريفات المطبقة والتعريفات المربوطة في البلدان النامية. أنظر، على سبيل المثال:

WTO (2000) Committee on Agriculture (Regular Meetings) General Council Overview of WTO Activities . G/L/417. Geneva p52

11 تبين أن البلدان لابد أن تزيد من حصيلة النقد الأجنبي بأكثر من 1% لكي تزيد من وارداتها الغذائية بنسبة 1%. أنظر، على سبيل المثال:

Food Security Assessment, USDA Economic Research Service. Situation and Outlook series GFA-11 Washington DC, 1999.

12 واجهت المغرب، على سبيل المثال، مشكلة فيما يتعلق باستخدام دعم عمليات التخزين في السنوات التي كان فيها المحصول جيداً نظراً لالتزاماتها الخاصة بمقياس الدعم الكلي، وكان من الممكن التخفيف من حدة هذه المشكلة باللجوء إلى دعم الصادرات.

13 أنظر:

Pearce R (1997) Incentive policies for domestic small-scale agricultural production. In: Konandreas, Lindland, Pearce and Wilkin (eds) The Uruguay Round and Agriculture in Southern Africa: Implications and Policy Responses. FAO, Rome

14أنظر نفس المصدر المبين في الحاشية رقم 3، الجزء الثاني، صفحة 106.

15 للاطلاع على استعراض كامل، يمكن الرجوع إلى:

Dorward, A. R, Kydd, J and C. Poulton (1998) Smallholder Cash Crop Production under Market Liberalisation: A New Institutional Economics Perspective. Wallingford, CAB International: 56-112.

16 للاطلاع على استعراض كامل، يمكن الرجوع إلى:

Dorward, A.R., Kydd, J. and Poulton C. (1998), Smallholder Cash Crop Production under Market Liberalisation: A New Institutional Economics Perspective. Wallingford, CAB International: pp. 56-112.

17 أنظر:

Reutlinger, S. (1987) The nutritional impact of agricultural projects. In Gittinger, J.P., Leslie, J and C. Hoisington (eds)(1987) Food Policy: Integrating supply, distribution and consumption. EDI series in Economic Development. Johns Hopkins Press World Bank, Washington DC.

18 أنظر على سبيل المثال:

Diaz-Bonilla, E., Thomas, E., Robinson, S. and Cattaneo, A. (2000), Food Security and Trade Negotiations in the World Trade Organization: A Cluster Analysis of Country Groups. Trade and Macroeconomics Division Discussion Paper No. 59, Washington, D.C. and Valdes, A. and McCalla, A. (1999), Issues, Interests and Options of Developing Countries, paper delivered at conference on Agriculture and the New Trade Agenda from a Development Perspective: Interests and Options in the WTO 2000 Negotiations, Geneva.

19 أنظر البيانات التي أدلت بها البلدان الثلاثة، وهي واردة في وثائق منظمة التجارة العالمية التالية: G/AG/NG/W/32, 182 and 114.


الصفحة السابقة الى أعلى هذه الصفحة الصفحة التالية