لصفحة السابقةبيان المحتوياتلصفحة المقبلة

الأنشطة غير القانـونية والفساد في قطاع الغابات

تشمل إدارة الغابات جميع أوجه ممارسة السلطة من جانب المؤسسات الرسمية وغير الرسمية فى إدارة الموارد الحرجية لبلد ما.

وتشمل هذه الإدارة أنشطة من جانب الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والعلاقات فيما بينها وبين بعضها، ويترجم حسن الإدارة إلى مؤسسات حكومية فعالة وإطار تمكيني (عن طريق السياسات، والمبادرات، والقوانين الملائمة، والتنفيذ الصارم، وغير ذلك) لهذه القطاعات الثلاثة، لكي تعمل فى انسجام من أجل تحقيق الأهداف القطرية مثل الكفاءة الاقتصادية، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، ونوعية البيئة المحسنة، ومزيد من الإدارة المستدامة للغابات.

أما الإدارة الضعيفة فى قطاع الغابات، والسائدة فى كثير من البلدان، فلها عواقب بيئية واقتصادية واجتماعية سلبية. ويركز هذا الفصل على واحد من أهم جوانب الإدارة الضعيفة: الانحراف والفساد فى الغابات. ففى بلدان كثيرة، تنتشر العمليات غير القانونية، وتعجز الحكومات عن السيطرة على نظمها البيروقراطية، أو اجبار الشركات التجارية وكيانات المجتمع المدني على الالتزام ب " قواعد اللعبة"، وفى الحالات الصارخة، تتمكن الشركات الخاصة أو الجماعات القوية من السيطرة على الحكومة و "شراء" المراسيم والتشريعات واللوائح لمنفعتها الخاصة.

وقد تصدر الفساد- وهو موضوع كان يعتبر من المحظورات حتى فترة قريبة- الحوار الدولي بشأن الغابات، ونوقش بصراحة فى محافل كبيرة عقدت أخيرا، ويجري بحثه من جانب الحكومات والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والمنظمات الدولية من خلال عدة مبادرات. وكان الدافع لكل ذلك، هو تزايد الوعي على نطاق العالم بالتكاليف الهائلة المرتبطة بالفساد والأنشطة غير القانونية الأخرى. كذلك أصبح من الواضح أن الجهود المبذولة لتحسين إدارة الغابات سوف تكون ذات قيمة محدودة ما لم تقترن بتدابير لخفض الجريمة فى الغابات. وأخيرا، أصبح من الصعب بشكل متزايد إخفاء الأنشطة غير القانونية والفساد، بسبب جهود وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية، والانتشار السريع للمعلومات بفضل تكنولوجيات المعلومات الحديثة.

ويتحدث هذا الفصل عن أثر الجريمة وأنشطة الفساد فى قطاع الغابات، وجهود أصحاب الشأن على اختلاف مشاربهم لقمع هذه الأنشطة. ويتحدث القسم الأول عن الأنشطة الحرجية غير القانونية، ولماذا يصبح قطاع الغابات والصناعات الحرجية أكثر عرضة من القطاعات الأخرى للأنشطة غير القانونية. ويعقب هذا القسم مناقشة لضخامة وآثار الأنشطة غير القانونية والفساد فى قطاع الغابات، ويحاول القسم الذى يلى الإجابة على أسئلة مثل: هل يمكن مكافحة الأنشطة غير القانونية والفساد بصورة فعالة؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن مكافحتها؟ ويتحدث القسم الأخير عن الجهود المبذولة لمكافحة الجريمة فى الغابات.

 

الأنشطة غير القانونية التي تؤثر على الموارد والصناعات الحرجية

تعريف جرائم الغابات والفساد

يمكن أن يقوم الأفراد والمجموعات من الأفراد والمؤسسات بأنشطة غير قانونية، وأن يزعزعوا إدارة قطاع الغابات. وهناك أنواع كثيرة من الممارسات الحرجية غير القانونية (أنظر الإطار رقم 20 للاطلاع على بعض الممارسات الشائعة). فقد يبرم الموظفون العموميون عقودا غير قانونية مع شركات القطاع الخاص. وقد تقوم شركات تجارية خاصة بقطع أشجار من أنواع يحميها القانون من الاستغلال، وقد يدخل الأفراد والمجتمعات المحلية إلى غابات عامة ويحصلون بصورة غير قانونية على منتجات تعتبر ملكية عامة، ولا تقف الأنشطة غير القانونية عند الغابات، فهي تمتد لتشمل عمليات فى مجال نقل وتجهيز وتجارة المنتجات الحرجية. وقد يقوم الأفراد أو الشركات بتهريب المنتجات الحرجية عبر الحدود الدولية، أو تجهيز المواد الخام الحرجية دون ترخيص، وقد تلجأ الشركات التي لها علاقات دولية قوية إلى تضخيم أسعار اللوازم المستوردة بصورة مفتعلة، أو خفض حجم وأسعار صادراتها لتقليل أرباحها الاسمية والإقلال من مسؤوليتها الضريبية وتيسير التحويل غير القانوني لرؤوس الأموال إلى الخارج.

 

 

وهناك كثير من الأنشطة غير القانونية التي تعزى ببساطة إلى عجز الحكومة عن تنفيذ القانون، ومن المؤسف، أنه فى حالات أخرى كثيرة، تكون الأنشطة غير القانونية نتيجة للفساد. والفساد مفهوم معقد له تفسيرات ومعان مختلفة كثيرة. ويعرف الفساد هنا على أنه "Çلاستخدام غير القانوني لوظيفة عامة من جانب السياسيين أو الموظفين المدنيين، من أجل تحقيق مكاسب خاصة".

وطبقا لهذا التعريف، فإن أعمال الفساد هي الأعمال غير القانونية التي:

ويفرق بعض المؤلفين بين الفساد الصغير والفساد الكبير (Tanzi,1998). ففى الفساد الكبير، تكون الرشاوى ضخمة. وكثيرا ما يتمثل الموقف فى أن الفساد الصغير يعد أكثر "قبولا" نوعا ما لأنه يرتكب عادة من جانب موظفين ذوي رواتب هزيلة، ولافتراض أن نطاقه من الضآلة بحيث لا يترك فى الواقع أثرا كبيرا على الموارد الحرجية.

غير أن هذا الافتراض قد يكون خاطئا: فالأثر الإجمالي لانتشار الفساد الصغير ربما لا يقل خطورة عن بعض حالات الفساد الكبير (Callister,1999). وفى بعض الحالات، قد يكون من الأسهل كشف الفساد الكبير، ولكن مراقبته ومعاقبته قد تكون من الأمور الصعبة بسبب السلطة السياسية الكبيرة التي يتمتع بها الشركاء الموصومون بالفساد . وغالبا، ما يؤدي استمرار وعدم ردع الفساد الكبير، الذي يمارسه أولئك الجالسون على القمة، إلى تهيئة ظروف مواتية للفساد الصغير، مما يؤدى الى تغيير القيم والمعايير الاجتماعية.

تعرض قطاع الغابات للجريمة والفساد

هناك عدة أسباب تدعو للاعتقاد بأن قطاع الغابات، والصناعات الحرجية، قد يكون أكثر عرضة من القطاعات الأخرى للأعمال غير القانونية والفساد. ويبدو أن هذا هو الحال، على الأقل، فى كثير من البلدان المدارية وشبه المدارية، حيث تكون النظم الايكولوجية بالغة التعقيد، وحيث تكون عملية الوصول إلى الغابات أمرا صعبا، وتقل رؤية العمليات غير القانونية بسبب عدم كفاية نظم الرصد بشكل عام وضعف وسائل الإعلام. والأسباب التى جعلت هذه البلدان بشكل خاص، وإن لم تكن وحدها، عرضة للجريمة والفساد فى الغابات هي على النحو التالي:

وهكذا، فإن ارتفاع قيمة الأخشاب، وعدم وضوح الرؤية، وضآلة الأجور، ووجود منتجات أبعد ما تكون عن التوحيد القياسي، وإعطاء سلطات تقديرية واسعة للبت فى عدد من الأمور غير الموضوعية بدرجة كبيرة، وقلة المعلومات الموضوعية، وعدم المساواة فى توزيع السلطات فيما بين العناصر الفاعلة، وعدم احتمال توقيع عقوبات رادعة، كل هذه الأمور تعمل على إيجاد بيئة مواتية للأنشطة غير القانونية والفساد.

 

حجم الأنشطة الحرجية غير القانونية وأثرها

تقع الأنشطة الحرجية غير القانونية والفساد فى كل مكان فى العالم تقريبا: فى المجتمعات الصناعية وفى البلدان النامية وفى البلدان التي يمر اقتصادها بمرحلة تحول (29) . ومع أن البلدان التي يمر اقتصادها بمرحلة تحول بدأت تحظى أخيرا باهتمام متزايد، فإن وسائل الإعلام تميل إلى مواصلة تركيزها على البلدان النامية وخاصة البلدان المدارية الغنية بالغابات، ويرجع هذا بصورة جزئية إلى القلق العام بشأن أهمية هذه الغابات من حيث صيانتها للتنوع البيولوجي، ولأن تدهورها يؤثر على الكثير من شعوب العالم الاكثر فقرا، غير أنه من الواضح أن البلدان ذات الموارد الحرجية الشحيحة، مثل مناطق العالم الاكثر جفافا، ليست بمنأى عن الجريمة والفساد. ومع أن أعمال الفساد والرشاوى الفردية فى هذه البلدان قد تكون ضئيلة، فإن أثرها الإجمالي قد يكون كبيرا، وتتعرض لتأثيرها السلبي أعداد كبيرة من الفقراء، ومع هذا، فإن جرائم الغابات فى هذه البلدان تحظى باهتمام أقل من جانب وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية البيئية وأخصائيي التنمية ووكالات المساعدة الدولية.

وفى جميع هذه الحالات- فى البلدان الغنية والفقيرة بالغابات، أو فى البلدان الصناعية أو البلدان النامية أو التي تمر اقتصاداتها بمرحلة تحول- من الصعب تحديد حجم جرائم الغابات. فلا توجد تقديرات عالمية أو إقليمية لحجم الأنشطة غير القانونية والفساد فى قطاع الغابات، ومن الصعب معرفة ما إذا كانت تتزايد من حيث التكرار أو الضخامة، غير أن المعلومات المتاحة، وإن كان من المعروف أنها جزئية، تبين أن الأنشطة غير القانونية وأنشطة الفساد تسود فى بلدان كثيرة.

وقد أجريت عدة دراسات عن الفساد فى قطاع الغابات، ولقي بعضها رواجا شديدا، وقدرت إحدى الدراسات التي أجراها الصندوق العالمي للحياة البرية منذ بضع سنوات، أن معظم صادرات الأخشاب من بلدان مختلفة فى آسيا كانت غير قانونية (Dudley, Jeanrenaud ,and Sullivan,1995). ويذكر تقرير أخير، اشترك فى إعداده الصندوق العالمي للحياة البرية فى بلجيكا، ومعهد الموارد العالمي، والصندوق العالمي للحياة البرية، برعاية الهيئة الأوروبية، حالات من الفساد فى بلدان مختلفة فى أفريقيا والمحيط الهادي والبحر الكاريبي (Sizer and Plouvier,2000). وجاء فى بحث أجرته مبادرة Global Forest Watch ، وأصدره مؤخرا معهد الموارد العالمي، أنه فى إحدى بلدان أفريقيا الوسطى كان أكثر من نصف جميع التراخيص الفعلية لقطع الأشجار فى عام 1999 غير قانوني (إذ كانت العمليات تتم بتراخيص منتهية أو يتم قطع الأشجار فى مرافي ومحتجزات محمية)، وأن قانونية تخصيص 23 امتيازا آخر للأخشاب كانت موضع شك (WRI,2000a) وأظهر هذا البحث أيضا أن كثيرا من الشركات والأفراد المخالفين، الذين كانوا يعملون خارج القانون، لم تتم محاكمتهم قط بسبب نفوذ "سلطة عليا". وقد أجرت عدة مؤسسات، مثل وكالة الاستقصاءات البيئية، والشاهد العالمي، وأصدقاء الأرض، بحوثا عن جراثم الغابات فى عدة بلدان أخرى، أظهرت أنها مشكلة حرجة تواجه الادارة المستدامة للموارد الحرجية (أنظر على سبيل المثال. Environmental Investigation Agency 1996 Global Witness, 2000; G!astra 1999).

وفى حالة شهيرة عن تحقيق مفصل فى جريمة من جرائم الغابات وأعمال الفساد فى قطاع الغابات، انتهى أحد القضاة فى دولة جزرية بالمحيط الهادي إلى أنه:

"سوف يكون من الانصاف، أن نقول عن بعض الشركات، انها تطوف الآن فى الريف بتأكيدات من بارونات اللصوص، فتقدم الرشوى للسياسيين والزعماء، وتسبب خللا اجتماعيا، وتتجاهل القوانين، من أجل ضمان الوصول إلى البقية الباقية من أخشاب الولاية القيمة، وانتزاعها وتصديرها، وتقوم هذه الشركات بخداع ملاك الأراضي، والاستفادة من السياسيين الفاسدين والسذج وغير المدركين 000 ومن الأمور الفاضحة، بشكل مضاعف، أن هذه الشركات الأجنبية 000، حولت بعد ذلك أموالا سرية وغير قانونية الى الخارج... على حساب ملاك الأراضي والحكومة. ولا يمكن أن يكون هناك أي شك فى أن صناعة الاخشاب، بحكم طبيعتها، تفضي إلى أعمال ذات طبيعة اجرامية، بما يخالف القانون والادارة الحكومية السليمة".

(Marshall,1990)

وحاولت دراسة أخيرة عن جرائم الغابات فى أحد بلدان جنوب شرق آسيا، تقدير حجم الأنشطة غير القانونية، بمقارنة الأرقام الرسمية لإنتاج الأخشاب فى هذا البلد خلال عام 1997/ 1998 ، بما يعادله من الاستهلاك الظاهري المحلي من الأخشاب المستديرة مع إضافة الصادرات وطرح الواردات. ويعطي هذا الحساب الأخير تقديرا تقريبيا ل "الإنتاج الظاهري "، وبمقارنة الإنتاج الرسمي بالإنتاج الظاهري، وجد المحلل أن هناك فجوة لإنتاج غير مفسر يصل إلى 33 مليون متر مكعب. وهذا يتجاوز الإنتاج الرسمي الذي أعلن أنه بلغ 5 ر29 مليون متر مكعب. وبعبارة أخرى، قد يكون أكثر من نصف الأخشاب المستخرجة من الغابات غير قانوني فى هذا البلد (DFID,2000b).

ومن الواضح أن هناك سببا للاعتقاد بأن جرائم الغابات والفساد، هي مشاكل خطيرة تتكاتف ضد جهود البلدان لإقامة نظم للإدارة المستدامة للغابات.

وسوف يتفق معظم الناس على أن الإدارة السليمة لا يمكن أن تتحقق بدون الامتثال للقوانين، وأنه ينبغي مكافحة الأعمال غير القانونية. وتشمل خطوات العلاج وضع قوانين أفضل، ثم الرصد الفعال والكشف عن هذه الأعمال وتوقيع عقوبات أشد قسوة، غير أن الآراء تتضارب بصورة كبيرة بالنسبة لأعمال الفساد. فإذا وضعت الاعتبارات الأخلاقية جانبا، يقول البعض إن أنشطة الفساد تسهم فى الكفاءة الاقتصادية، لأنها تتيح للمستثمرين والمتعهدين تفادي اللوائح البيروقراطية بالغة التعقيد، التي تبدو غريبة فى بعض الأحيان، وطبقا لهذا الرأي، يعد الفساد بمثابة "التشحيم ” الذي يعمل على استمرار دوران دولاب تنمية الغابات . فعن طريق تفاديه للقيود التي تضعها الحكومات، يعد الفساد بمثابة تحرر من القيود. كما يقول المدافعون عن هذا المنطق ان الفساد يسهم فى الكفاءة الاقتصادية، لأن الشركة الاكفأ، أي الشركة التي تتحمل أقل التكاليف، سوف تتمكن من دفع أكبر الرشاوى، وبذلك سوف تحصل على العقد، متل عقد امتياز الأخشاب. وبالمثل، فإن الشركة أو الأفراد الذين يعرفون قيمة الوقت سوف يفضلون دفع الرشاوى للقفز فوق الصفوف، وتمرير أوراقهم وعقودهم بشكل أسرع وهكذا، فإن السلوك الفاسد هنا أيضا من شأنه أن يساعد فيما يبدو على زيادة الكفاءة الاقتصادية.

غير أن هناك أدلة كثيرة تبين أن الأنشطة غير القانونية والسلوك الفاسد لا يتسمان بالكفاءة من الناحية الاقتصادية، ويؤثران بصورة سلبية على استدامة إدارة الغابات والعدالة الاجتماعية، فالفساد، بصرف النظر عن كونه تشحيما اقتصاديا، يشوه تخصيص الاستثمارات فى قطاع الغابات. وموظفو الحكومة الذين يقبلون الرشاوى قد يتخذون قرارات تتفق، عن طريق الصدفة وحدها، مع تلك القرارات التي تحقق أكبر المنفعة للبلد.

وعلى سبيل المثال، قد لا تكون معدات الحصاد والنقل ملائمة تماما لظروف البلد، ولكن قد يتم اختيارها لأن المورد يدفع رشاوى لكي يفوز بالعقد، وفضلا عن هذا، ت فضل أحيانا مشروعات وتكنولوجيات غير ملائمة وذات رأسمال كثيف لأنه يسهل عن طريقها الحصول على رشاوى كبيرة.

وبالإضافة إلى هذا، تعمل الظروف الفاسدة على ظهور حلقة مفرغة. فعند التغاضي عن الفساد، يكون لدى موظفى الحكومة حافز لوضع قواعد جديدة من أجل مضاعفة الحاجة إلى وجود شركات وأفراد يدفعون الرشاوى لإنجاز أعمالهم. ولنفس السبب، قد يقاوم المسؤولون الجهود الرامية إلى تبسيط اللوائح. وهكذا، فإن التوصيات الخاصة بتبسيط نظم منح امتيازات الأخشاب على سبيل المثال، ربما لا يؤخذ بها، لأن الإصلاحات قد تغلق الباب أمام فرص الانحراف. ولهذا، فإن الفساد ربما لا يكون رد فعل فقط للتشريعات المعوقة، وإنما قد يتسبب فيها أيضا.

وبالمثل، فإن المبالغ التي تدفع لاختصار الإجراءات البيروقراطية عن طريق "القفز فوق الصفوف "، ربما تكون حافزا قويا للبيروقراطيين لكي يعملوا على زيادة إبطاء مثل هذه الإجراءات، فقد تضمن الرشاوى موقعا أفضل لشركة ما فى الصف (للحصول مثلا على تصاريح التصدير)، ولكن متوسط الوقت اللازم لتجهيز الطلبات قد يتناول بدرجة كبيرة. ويميل الفساد فى هذه الحالات إلى أن يتغذى على اتجاه هبوطي من عدم الكفاءة الاقتصادية، حيث يؤدي المزيد من الفساد إلى زيادة عدم الكفاءة وهكذا.

وفضلا عن هذا، عندما تزداد السلطات التقديرية لموظفى الحكومة، فإنهم يتعودون على سلوك التماس الرشاوى، عن طريق فرض رشاوى كبيرة على تلك الشركات الاكثر قدرة على الدفع. وغالبا ما تكون هذه الشركات هي الأكثر كفاءة، ولكن فى بعض الحالات قد تكون هي الشركات التي تقوم بتوريد المنتجات والخدمات الأقل جودة.

وقد اختبر عدة باحثين الافتراضات الخاصة بترشيد الفساد، استنادا إلى مزاياه الاقتصادية الافتراضية. ولكن الأدلة التي خرجت من عدة قطاعات لا تؤيد مفهوم "التشحيم الكفء" (Kaufmann and Wei 2000). ومع أن أيا من هذه الدراسات التجريبية لم يركز على قطاع الغابات، فإنه ليست هناك أي حجة مقنعة تدعو للاعتقاد بأن آثارها سوف تختلف. وفى الواقع أنه، عندما ينتشر الفساد، تميل الشركات المسؤولة إلى تفادي الاستثمار فى بلد أو قطاع يسوده الفساد (Kaufmann, 1997) والسبب فى ذلك هو أن تكاليف التشغيل فى ظل ظروف فاسدة يمكن أن تكون عالية جدا ا وعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسات أن متوسط التكلفة الاضافية للفساد فى قطاع الغابات فى بلد يسوده الفساد هو نحو 20 فى المائة. وهذا يعادل ضريبة شركات عالية جدا (Tanzi,1998). وإلى جانب ذلك، فإن الأرباح التي تحققها الشركات والدخول التى يحققها موظفو الحكومة الفاسدون ترسل عادة إلى الخارج أو تدخر كأرصدة غير منتجة، وبذلك تلغي احتمال الاستخدام المنتج لرأس المال.

وفضلا عن هذا، يميل السلوك الفاسد إلى ردع الاستثمار طويل الأجل فى الغابات لأن المخاطر تكون أعلى فى الأوضاع الفاسدة . وبينما تفترض حجة "التشحيم الكفء" أن كل طرف فى العقد الذي تم عن طريق الفساد سوف يلتزم بشروط ذلك العقد، فإن هذا لا يكون هو الحال فى أغلب الأحيان، فالوعود ربما لا يتم الوفاء بها، لسبب رئيسي وهو أن هذا يفتح الباب أمام مزيد من الرشاوى، وبطبيعة الحال، لا يكون هناك لجوء إلى المحاكم لفرض الامتثال وتنفيذ شروط اتفاق فاسد. وبالإضافة إلى ذلك، عندما تعتمد التغييرات فى العقود على أمزجة المسؤولين الفاسدين، الذين قد يتم تغييره فى تعديل سياسي لاحق، من الطبيعي أن تتبدد الرغبةم فى الاستثمار فى عمليات طويلة الأجل. كل هذه العوامل تميل إلى خفض مستويات الاستثمارات الخاصة فى الغابات.

وقد تم حتى الآن بحث السلوك الفاسد بين الحكومة والشركات التجارية الخاصة. ولكن بعض القوى ذاتها المناهضة للكفاءة الاقتصادية لها دورها فى العلاقات بين الحكومة والمؤسسات وأفراد المجتمع المدني، مثل المجتمعات المحلية الريفية أو السكان الريفيين بشكل عام. وفى هذه الحالات، يميل الفساد إلى أن يكون أكثر عنفا من الناحية الأخلاقية، لأن بعض أفراد المجتمع المدني ضعفاء للغاية، فالموظفون العموميون، الذين يتعسفون فى استخدام سلطاتهم، غالبا ما يتمكنون من انتزاع أموال من بعض السكان الاكثر فقرا والأشد حرمانا، وبتعبير أدق، ووفقا لتعريف الفساد، لا تعتبر هذه الأعمال من قبيل الفساد لأن أحد الشركاء لا يقوم بها عن طواعية، فهذه أعمال اجرامية، وأفضل وصف لها هو أنها ابتزاز. وفى حالات صارخة، قد يتعين على الفقير أن يدفع من أجل الحصول على بعض السلع والخدمات الحرجية التي يستحقها بالفعل بموجب القانون، مثل حق جمع خشب الوقود من الغابات العامة. وغالبا ما يؤدي الامتناع عن دفع الرشاوى إلى تلفيق قضايا ضدهم، لإرغامهم على "الوقوف فى الصف " ليكونوا ضحايا الفساد، دون أي إجراء علاجي . وهذه الأعمال غير القانونية، فضلا عن اتارها السلبية المحتملة على الكفاءة الاقتصادية، تتعارض مع العدالة ومع كرامة الجماعات المحرومة.

ثم أنه نظرا لأن الأموال العامة تذهب إلى جيوب الأفراد وليس إلى خزانة الدولة، فإن الفساد يقلل من العاثدات العامة. والأرجح- كما قلنا من قبل- أن تكون هذه المبالغ كبيرة. ومن المحتمل أن يكون مثل هذا الانحراف للأموال أكثر ضررا بصورة نسبية فى البلدان النامية، حيث تكون أموال الاستثمار شحيحة للغاية، وتكون الحاجة أشد إلحاحا إلى نمو الاقتصاد القطري وتحسين ظروف الفقراء.

ومجمل القول، وعلى عكس نظرية "التشحيم الكفء"، تعد اتار الفساد على تصريف شؤون الغابات، والكفاءة الاقتصادية، وإدارة الغابات، والعدالة، آثارا عديدة وسلبية فى أغلب الأحيان. فالفساد يزعزع قدرة الدولة على فرض القانون والنظام فى القطاع. وهو يقلل من الكفاءة الاقتصادية لأنه يؤدي إلى قرارات هزيلة، وسوء تخطيط للموارد الاقتصادية الشحيحة. وهو يعمل كرادع لاستثمار القطاع الخاص فى قطاع الغابات، ويؤثر على نوعية إدارة الغابات، لأنه يحبذ الاستغلال السريع والمتلف للغابات العامة، لتحقيق مكاسب شخصية بدلا من المنفعة القطرية. ولما كان الفساد يؤذي قطاعات المجتمع الاكثر فقرا أكثر مما يؤذي غيرها، فإن الفقراء ينظرون إلى الحكومة على أنها غير عادلة، وتحابي الأغنياء بالفعل. وهذا يزيد من احتمالات القلق الاجتماعي، إن لم يؤد إلى صراع عنيف. وعلى سبيل المثال، كانت ولاية شياباس فى المكسيك مسرحا لثورة مسلحة ضد الحكومة الفيدرالية فى عام 1994. وكان الثوار أساسا من الهنود الفقراء، الذين يحتجون على طردهم من مزارعهم وأراضيهم الحرجية من جانب كبار مربي الماشية وقاطعي الأشجار، الذين يعملون بالتواطؤ مع الموظفين العموميين الفاسدين.

 

ما الذي يمكن عمله إزاء الأنشطة غير القانونية والفساد فى قطاع الغابات؟

ليس هناك شك فى أنه يمكن محاربة الأنشطة غير القانونية بصورة فعالة عن طريق نظم الرصد المحسن، والقوانين المبسطة، والتنفيذ الصارم. ولكن عندما يأتي الأمر إلى أنشطة الفساد، يتساءل المتشككون عما إذا كان من الممكن محاربتها بصورة فعالة، ويقول البعض إنه عندما يكون الفساد أمرا معتادا، فإنه يصبح "جزءا من الثقافة"، ويكون مقبولا من الجميع، ولهذا فإن أي إجراء لمحاربته من المحتمل ألا يكون فعالا، ويشير آخرون إلى أنه فى هذه الظروف، تعد محاربة الفساد فى مجموعة من الأنشطة- مثل تلك الأنشطة المتصلة بالموارد والصناعات الحرجية- عملية خاسرة، لأنه لا يمكن عزل أحد قطاعات الحكومة عزلا كاملا عن النظام الكلي للإدارة؛ ولابد من إصلاح الحكومة برمتها قبل أن تتحقق سلامة الأنشطة المتعلقة بالغابات.

وهذه الحجج لا تدعمها الأدلة، وتبين حالات أخيرة، أن الغالبية ترفض الفساد بشكل قاطع تقريبا، حتى فى المجتمعات التي يكون فيها الفساد أمرا معتادا، وهذا يدحض الحجة التي تقول إن الفساد يصبح "جزءا من الثقافة". وهذا لا يعني أن استئصاله عملية سهلة. فعندما يتسلل الفساد إلى النظام الحكومي بأكمله، ويصبح منظما دون أن يواجه أي تحد سياسي فعال، تصبح محاربته أمرا بالغ الصعوبة فى قطاع الغابات (Johnston and Doig,1999)، وفى هذه الحالات، ربما تؤدي محاربة الفساد فى قطاع الغابات إلى حدوث تغييرات قصيرة الأجل، ولكن هناك خطرا حقيقيا من عدم استمرار هذه التغييرات.

وليست جميع الحالات تنطوي على فساد منظم، فعندما يكون الفساد أقل تغلغلا، يمكن أن يحقق أي إصلاح فى وزارة فردية، أو فى وكالة معينة، نتائج ملحوظة. وفى حالة الأنشطة الحرجية، فإن إقامة آليات أكثر شفافية، مثل المزادات العلنية فى منح امتيازات الأخشاب، والإقلال من الأحكام التقديرية الفردية عند تخصيص فئات الدعم، والاستعانة بأصحاب الشأن من القطاع الخاص والمجتمع المدني، وتعيين وكالة رصد محايدة، وتشجيع الخصخصة، كل هذا يسهم فى الحد من الفساد، وحالة بوليفيا، الموضحة فى الإطار رقم 21، هي أحد الأمثلة التي تبين كيف يمكن أن تنجح مثل هذه الإجراءات فى قطاع الغابات.

 

(29) لا يدرج مؤشر الشفافية الدولية عن أبعاد الفساد سوى بلد نام واحد من بين 20 بلدا من البلدان الأقل فسادا، بينما يوجد 14 بلدا ناميا (من بينها عدة بلدان غنية بالغابات) ضمن مجموعة من 20 بلدا من البلدان الأكثر فسادا. للاطلاع على مؤشر عام 2000، أنظر:

WWW.transparency.de/documents/cpi/2000/cpi2000.html

لصفحة السابقةاعلى هذه الصفحةلصفحة المقبلة