الصفحة السابقة بيان المحتوياتلصفحة المقبلة

السياسات الإصلاحية الأخيرة وما يترتب عليها من تغيرات نتيجة لانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية

ولئن كانت الإصلاحات الزراعية التي تنفذها الصين منذ أواخر السبعينات من القرن العشرين ستسهل على القطاع الزراعي التأقلم مع التغيرات التي ستنشأ في أعقاب الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، فإن البلد مازال يواجه تحديات كثيرة في الوفاء بالتزاماته إزاء منظمة التجارة العالمية (56) . بيد أن هذه التحديات قد تعتبر في الوقت نفسه بمثابة فرص توفر حافزا للإصلاحات الداخلية وإصلاحات السياسة التجارية الجارية. ومن المتوقع أن تأخذ الاستجابات على مستوى السياسات لانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية أحد شكلين: الأول استجابات على مستوى السياسات للوفاء بالالتزامات إزاء منظمة التجارة العالمية، والثاني إصلاحات على مستوى السياسات تهدف إلى تعزيز الاقتصاد والحد من الهزات المعاكسة المترتبة على الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية إلى أدنى حد ممكن.

التغييرات التشريعية

تقوم الصين بإدخال تغييرات تشريعية كبرى لكي تلتزم بقواعد منظمة التجارة العالمية.

ينبغي أن تحدث تغييرات مهمة كثيرة في مجال التشريع. فقد أعطيت الصين مهلة مدتها عام واحد من تاريخ الانضمام لكي تحقق اتساق مؤسساتها ولوائحها وتشريعاتها الخاصة بالسياسة الاقتصادية مع روح عدم التمييز والشفافية التي تتسم بها منظمة التجارة العالمية. ولقد بدأت بالفعل في أواخر التسعينات من القرن العشرين الأعمال التحضيرية لذلك.

فقد أعلنت في يناير/كانون الثاني 2002 مجموعتان هامتان من اللوائح، لتوفرا توجيها عاما للسلطات الوزارية وسلطات الحكم المحلي من أجل تعديل أو إلغاء اللوائح والقوانين والسياسات ذات الصلة، وهما: اللوائح المتعلقة بعملية صياغة القوانين، واللوائح المتعلقة بعملية صياغة القوانين الإدارية. وهذه اللوائح الجديدة التي تعتبر دليلا لأجهزة الحكم المحلي وللوزارات، صدرت لضمان نقل مهام حكومية كثيرة إلى السوق ولتوجيه الحكومة لكي تتخد دورا تنظيميا بدرجة أكبر وغير مباشر في التجارة الداخلية والخارجية.

والجهود الرامية إلى وضع وتنفيذ هذا الإطار التنظيمي الجديد واسعة النطاق. فعلى سبيل المثال، أثناء المرحلة الأخيرة من مفاوضات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، شكلت كل وزارة لجنة لاستعراض جميع القوانين واللوائح التي تدخل في إطار اختصاصها لكي تجعلها متسقة مع قواعد منظمة التجارة العالمية والتزامات الصين بناء على انضمامها إلى المنظمة. وشكلت أجهزة الحكم المحلي لجانا مماثلة. وتدلل تجارب عديدة جرت مؤخرا، وانطوت على تعديل قوانين ولوائح وإنشاء مؤسسات جديدة تتعلق بالتجارة، على فعالية هذه اللجان وعلى استعداد الصين بوجه عام للوفاء بالتزاماتها إزاء منظمة التجارة العالمية. فعلى سبيل المثال نجد أن قانون براءات الاختراع الصيني (الذي كان قد صدر أصلا في عام 1984 ثم تم تعديله في عام 1992) قد أعيد تعديله في يوليو/تموز 2001. وعلاوة على ذلك وضعت مجموعة جديدة من اللوائح بشأن حماية أنواع النبات موضع التنفيذ في عام 1999 عندما أصبحت الصين البلد التاسع والثلاثين العضو في الاتحاد الدولي لحماية الأنواع الجديدة من النباتات.

وألغت وزارة الزراعة أيضا لوائح عديدة منذ عام 2000 كانت تمنح إعانات لأنواع معينة من مؤسسات الأعمال أو تميز بين عناصر فاعلة اقتصادية مختلفة في الصناعات ذات المدخلات الزراعية. وألغيت أيضا اللوائح المتعلقة بتنمية المؤسسات الزراعية والصناعية والتجارية المتكاملة في إطار المزارع الحكومية (الصادرة في عام 1983 للمساعدة في تنمية المزارع الحكومية) واللوائح المتعلقة بتنمية المؤسسات المملوكة للبلدات والقرى الريفية (الصادرة في عام 1979 لمساعدة مؤسسات الملكية العامة). كذلك ألغيت اللوائح المتعلقة بإدارة البذور والتي كانت تمنح سلطات احتكارية لشركات البذور المحلية، فضلا عن قواعد التجارب الميدانية لمبيدات الآفات التي كانت تنطوي على تمييز ضد الشركات الأجنبية.

ورغم الجهود الكبيرة الموجزة أعلاه مازالت الصين تحتاج إلى إجراء إصلاح مؤسسي كبير. فلا يزال يوجد عدد من القوانين والقواعد التي تمير بين الشركات المحلية والأجنبية وبين المواطنين والأجانب والتي يلزم تغييرها لتمكين الصين من الوفاء بالتزاماتها القانونية التي تعهدت بها في بروتوكول انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية.

إصلاحات التجار ة الزراعية

سيتعين على الصين إدخال المزيد لتحرير تجارتها الزراعية.

ربما كانت الإصلاحات وعملية التحرير في قوانين الصين ولوائحها التجارية هي الأكثر تقدما. فعلى مدى زهاء 20 عاما من الإصلاح، تحول نظام الصين للتجارة الخارجية تدريجيا من نظام شديد المركزية ومخطط وقائم على الاستعاضة عن الواردات إلى نظام أكثر لامركزية وتوجها نحو السوق يركز على ترويج الصادرات (57) . وهذه التغيرات في السياسات التجارية وغيرها من السياسات أدت إلى حدوث تحول تدريجي في الهيكل التجاري للصين لصالح المنتجات التي تحظى الصين فيها بميزة نسبية. ومن ناحية أخرى ستظل التجارة في سلع زراعية كثيرة تعمل في إطار ترتيبات تجارية حكومية غير شفافة نسبيا (58) . وستكون السنوات القليلة القادمة فترة حرجة للصين من حيث تعزيز إصلاحها التجاري في القطاع الزراعي، بما يشمل التدابير الجمركية وغير الجمركية على السواء.

إن التغييرات في السياسات الجمركية أكثر مباشرة وبساطة من إصلاحات السياسات غير الجمركية. وقد اتبعت الصين جدولها الزمني لخفض التعريفات الجمركية المحدد في البروتوكول. ففي اليوم الأول من عام 2002 تم تخفيض متوسط معدل التعريفات من 15.3 في المائة في عم 2001 إلى 12 في المائة. وكان التخفيض الجمركي فيما يتعلق بالمنتجات الزراعية من 21 في المائة إلى 15.8 في المائة. وكان من المقرر أيضا إنهاء إعانات التصدير إنهاء كاملا على مراحل منذ اليوم الأول في عام 2002.

وفي ضوء الاتجاه نحو خفض التعريفات الجمركية في العقد الماضي ينبغي أن تطرح التغيرات الجمركية الناجمة عن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية مشاكل قليلة نسبيا. ومع ذلك سيتعين إدخال إصلاحات كبيرة في مجال التدابير غير الجمركية. والتجارة الحكومية مجال مهم على وجه الخصوص يجب النظر فيه عند إصلاح سياسة الصين بشأن التجارة الزراعية. فقد وافقت الصين على إنهاء القيود على حقوق التجارة في ما يتعلق بجميع المنتجات باستثناء تلك التي تخضع للنظام التجاري لحصص المعدلات الجمركية، التي ستنحو تدريجيا إلى إنهاء نظام التجارة الحكومية على مراحل (الجدول رقم 16). ومن المفترض أن يسيطر القطاع الخاص بعد ثلاث سنوات من انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية على التجارة في جميع المنتجات الزراعية تقريبا. ولكن توجد أحكام تتيح للدولة أن تظل ضالعة في ما يتعلق بثلاث سلع هي: القمح والذرة والتبغ.

والحواجز التقنية التي تقف في طريق التجارة، وتدابير النظافة وصحة النبات، والترتيبات المؤسسية للوفاء باتفاق جوانب حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة، هي قضايا مهمة أخرى يتعين على الصين أن تعالجها.

إصلاح السوق المحلية وتنمية البنية التحتية

يجب أيضا إدخال المزيد من الإصلاحات على الأسواق الزراعية الداخلية.

بعد 20 عاما من الإصلاح أصبحت زراعة الصين أكثر توجها نحو السوق (59) . فقد أصبح التجار ينقلون المنتجات في شتى أنحاء البلد بانتظام متزايد. وحلول أواخر التسعينات من القرن العشرين لم يكن يخضع لتدخلات الأسعار سوى الحبوب والقطن، وإلى حد ما، شرانق دودة القز والتبغ. وحتى في هذه الحالات فإن أسواقها، لاسيما أسواق الحبوب، أصبحت تنافسية ومتكاملة وتتسم بالكفاءة بدرجة متزايدة بمرور الوقت (60) .

ورغم هذا التقدم، ما زال أمام الصين المزيد من إصلاحات السوق التي يمليها إطار منظمة التجارة العالمية. وسيتمثل أحد التحديات الرئيسية في تحسين كفاءة الأسواق الداخلية مع الإقلال إلى أدنى حد من الهزات المعاكسة الناجمة عن تحرير التجارة. ويمكن اعتبار حالة الحبوب مؤشرا لاتجاه إصلاحات السوق. فعلى مدى العقدين الماضيين كان أداء شركات تجارة الحبوب المملوكة للدولة لا يفي بالغرض على نحو مزمن نتيجة لعدم كفاية الحوافز ولعدد من أعباء السياسة الضريبية. وعلى الرغم من الجهود الإصلاحية كانت شركات كثيرة من الشركات المملوكة للدولة التي تبيع الحبوب مازالت تخسر أموالا في أواخر التسعينات من القرن العشرين. وكان هناك أيضا انتقاد دولي لممارسات الصين التسويقية. فكثيرا ما أشار مفاوضو منظمة التجارة العالمية إلى أن نظم التسعير الغذائي التقليدية الصينيةكان لها تأثير يخل بالسوق. ورأى آخرون أن المعاملة التفضيلية للمؤسسات المملوكة للدولة المختصةبتجارة الحبوب كانت تنتهك مبادئ المعاملة القطرية التي وضعتها منظمة التجارة العالمية. وفي مواجهة هذه الضغوط والشواغل، بدأت الصين مجموعة جديدة من الإصلاحات في عام 2000. وكخطوة أولى تم تدريجيا إنهاء السيطرة الحكومية على تجارة الحبوب الأقل جودة في البلد (ومن ذلك على سبيل المثال تباشير الأرز والذرة في الجنوب، والقمح الربيعي في الشمال، وكل القمح في الجنوب). وقد أسفرت هذه السياسة، على الفور تقريبا، عن حدوث تعديل في أنماط أنواع المحاصيل في بعض المناطق. فقد بدأ المنتجون يزرعون أنواعا أفضل لتحسين جودة الحبوب. ومع نجاح أداء هذا الإصلاح "لمجموعة" الحبوب في عام 2000 تحرر الحكومة رسميا الآن أسواق الحبوب. وقد طبق ذلك أولا في مجموعة فرعية من المناطق الساحلية التي تعاني عجزا في الحبوب وهي: جيجيانغ، وجيانغسو، وشنغهاي، وفوجيان، وغوانغدونغ، وهاينان ولكن من المتوقع أن يمتد التطبيق إلى جميع المقاطعات التي تعني عجزا في الحبوب في عام 2002.

واستجابة للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وضعت الحكومة أيضا خططا طموحة لزيادة الاستثمار في البنية التحتية للأسواق وإنشاء شبكة معلومات للتسويق القطري الفعال. وتحاول وزارة الزراعة توحيد معايير جودة المنتجات الزراعية وتشجيع التسويق من جانب المزارعين. وتجري دراسة إقامة رابطات للتكنولوجيا الزراعية. وكل هذه الخطوات جزء من جهد يرمي إلى تحويل الموارد المالية- التي كانت تستخدم في دعم نظم إعانة الأسعار الباهظة في الصين- نحو الاستثمارات التي ترمي إلى تعزيز الإنتاجية ونحو التحسينات في البنية التحتية للتسويق. وتبرز ضخامة هذا التحول في حجم الإعانات الإجمالية لتدخلات الأسعار والأسواق التي بلغت 40.3 بليون يوان رنمينبي في عام 2000، مما يمثل نحو 4 في المائة من الميزانية القطرية.

سياسة استخدام الاراضي، وتنظيم المزارع، والمؤسسات الزراعية

يدور أيضا قدر كبير من الجدل بشأن آثار انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية على استخدام الأراضي وتنظيم المزارع فيها. وتتركز شواغل كثيرة في هذا الصدد على قدرة المزارع الصغيرة في الصين على المنافسة بعد تحرير التجارة. فكل أسرة زراعية في الصين تملك أرضا ولكن متوسط حجم المزارع صغير جدا وآخذ في التدني (من 0.56 هكتار في عام 1980 إلى 0.45 هكتار في عام 2000) (61) ورغم أن هذه البنية يمكن اعتبارها إيجابية من حيث الإنصاف والاستقرار الاجتماعيين، فإن تفتيت الأراضي سيقيد أيضا نمو إنتاجية اليد العاملة ودخل المزارع. ويرى البعض أن حجم المزارع وإنتاجيتها يمكن زيادتهما في إطار ترتيبات لملكية الأراضي تكون مضمونة بدرجة أكبر. ويدعو آخرون إلى استمرار السياسات التي تعيد بموجبها السلطات المحلية دوريا توزيع الأراضي على المزارعين لكي تبقي على الأراضي في أيدي جميع سكان المناطق الريفية.

نساء من الصين يغرسن شتلات الأرز طبقا لسياسات الإصلاح الأخيرة في قطاع الحبوب، أصبح المزارعون يقللون من المساحات المزروعة ويستخدمون أصنافا أفضل.

قد يقيد حجم المزارع الصغيرة في الصين حدوث زيادات في الإنتاجية.

ومع أن واضعي سياسات كثيرين يحبذون الآن فيما يبدو الاعتماد على حقوق ملكية مضمونة بدرجة أكبر، فإنهم مازالوا يبحثون عن تدابير تكميلية لا تفرط في جميع سمات العدالة التي يتميز بها النظام الحالي لإدارة الأراضي. فالأراضي في المناطق الريفية مملوكة، بحكم القانون، ملكية جماعية من جانب القرية (التي يعيش فيها نحو 300 أسرة في المتوسط) أو مجموعة صغيرة ( cunmin xiaozu ، التي تضم عادة ما يتراوح بين 15 و30 أسرة) ويتم التعاقد عليها مع الأسرة (62) . ومن أهم التحديات في السنوات الأخيرة تمديد مدة عقود الاستخدام من 15 عاما إلى 30 عاما. وبحلول عام 2002 كان نحو 98 في المائة من القرى قد عدل عقوده مع المزارعين لكي تعبر عن المدة الأطول لحقوق الاستخدام (63) .

وتبحث الحكومة الآن عن آلية تتيح للمزارعين الباقين الذين يعملون على أساس التفرغ إمكانية الحصول على أرض مزروعة إضافية وزيادة دخلهم وقدرتهم على المنافسة. وقد أعد لهذا الغرض قانون جديد لعقود الأراضي الريفية. ومع أن ملكية الأراضي لا تزال ملكية جماعية فإن القانون ينقل إلى حائزي العقود جميع الحقوق الأخرى تقريبا التي كانت ستؤول إليهم في ظل نظام ملكية خاص. ويحدد القانون بوضوح، على وجه الخصوص، حق نقل الأرض المتعاقد عليها وتبادلها. وهذا إقرار بالتغيرات الجارية. فهناك قدر متزايد باستمرار من الأراضي يجري، في الحقيقة، تأجيره (64) . ويتيح التشريع الجديد أيضا للمزارعين استخدام الأرض المتعاقد عليها كضمانة للحصول على قروض تجارية، كما يتيح لأفراد الأسرة أن يرثوا حقوق استخدام الأراضي أثناء الفترة المشمولة بالتعاقد.

ويجرى أيضا تشجيع مؤسسات المزارع الكبيرة في محاولة لزيادة الإنتاجية الزراعية للصين، وإن كان ذلك يظل مسألة خلافية. فالمزارع الكبيرة كانت تدعمها حوافز مثل التخفيضات الضريبية للاستثمارات في البنية التحتية، والإعانات الائتمانية للمدخلات، والتمويل لمرافق تصنيع الأغذية.

والمحاولة الرئيسية الأخرى لزيادة إنتاجية المزارع هي تعزيز منظمات المزارعين. فواضعو السياسات يعترفون الآن بأن إنشاء منظمات ريفية فعالة قد يثبت أنه أحد أكثر الخيارات المبشرة بالخير لزيادة الإنتاجية والدخل، وذلك في ضوء الحجم الصغير لمزارع الصين. وعلى هذا الأساس سمح لمزارع الصين البالغ عددها 240 مليون مزرعة بتشكيل منظمات للمزارعين. ويجري تشجيع المنظمات على العمل عن كثب مع الحكومة في مجالات استخدام التكنولوجيا، ومعلومات التسويق، ومراقبة الجودة (65) .

الإصلاحات المالية

سار إصلاح القطاع المالي ببطء أكبر من مسيرة بعض القطاعات الأخرى، وتحتفظ الحكومة بسيطرة قوية عليه (66) . والتزامات الصين إزاء منظمة التجارة العالمية تقتضي منها أن تفتح تدريجيا أسواقها المالية. فبعد فترة انتقال تستغرق أربع سنوات ستتم إزالة جميع القيود الإقليمية وستحصل البنوك الأجنبية على معاملة قطرية غير تمييزية. وآثار ذلك بالنسبة للزراعة غير واضحة. فقد يعاني هذا القطاع، في المناطق الفقيرة على وجه الخصوص، ولكن ليس من المؤكد أن الوضع سيكون أسوأ مما كان قبل الإصلاحات. وقد قام القطاع المالي بانتظام بتحويل الأموال بعيدا عن الزراعة (67) . وخلال فترة الإصلاح بأكملها، كان هناك تدفق صاف لرأس المال إلى الخارج. بيد أن تجارب البلدان الأخرى تشير إلى أن صغار المزارعين الفقراء سيجري إخراجهم من الأسواق المالية في المدى القصير (68) .

الاستثمار الزراعي والسياسات الداعمة

تحول الصين دعمها لقطاع الزراعة، من دعم الأسعار إلى الاستثمار الذي يعزز الإنتاجية.

وافقت الصين، في أحد أهم تنازلاتها، على الإنهاء التدريجي لإعانات التصدير في السنة الأولى لانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية. وهذه الإعانات كانت تشجع في الغالب صادرات الذرة والقطن والمنتجات الزراعية الأخرى، ومن ثم كانت تدعم على نحو غير مباشر الأسعار المحلية.

وتمارس منظمة التجارة العالمية أيضا سيطرة صارمة على أنواع وحجم إعانات معينة يمكن أن تقدمها البلدان الأعضاء. وكما هو الحال فيما يتعلق بأعضاء منظمة التجارة العالمية الآخرين، يتعين على الصين أن تحدد بعناية القواعد المتعلقة بالكمية التي يمكن اعتبارها سياسة "الصندوق العنبري" (أنظر الإطار رقم 2). ويحدد بروتوكول انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية المستوى الأدنى للإعانات بنسبة 8.5 في المائة من قيمة الإنتاج الإجمالي الزراعي. وتشير دراسة بشأن الاستثمار الحكومي التاريخي في هذه المجالات إلى أن الحد الأدنى لا يرجح أن يكون ملزما في الوقت الحاضر (69) . وقد لا يبدأ الأثر الحقيقي لذلك إلا في وقت ما من المستقبل، عندما تصبح قيود الميزانية أقل تأزما بعد سنوات من زيادة أخرى في النمو الاقتصادي.

وفي بيئة ما بعد الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية قد تفكر الصين مليا في كيفية تحقيق أفضل استفادة لها من شروط الحد الأدنى وقد أظهرت دراسة جرت مؤخرا أنه على الرغم من أن القطاعات الكثيفة الاستخدام لليد العاملة (مثل قطاع الإنتاج الحيواني والبستنة) كانت معدلات الحماية الاسمية لها سالبة في أواخر عام 2001، فإن منتجات كثيرة كثيفة الاستخدام للأراضي (من بينها الذرة والقمح ومحاصيل البذور الزيتية والسكر) كانت معدلات حمايتها الاسمية موجبة إذ تراوحت بين 5 و40 في المائة (70) . وتخضع محاصيل الحماية الاسمية الموجبة جميعها تقريبا لإدارة حصص المعدلات الجمركية- وهي نتيجة تنطوي على آثار مهمة للكيفية التي يمكن بها للصين أن تقدم دعما لقطاعها الزراعي بأجدى طريقة. فبدلا من مواصلة دعم الأسواق أو تقديم الإعانات، تستطيع الصين أن تشجع تدابير تعزيز الإنتاج، مثل إجراء البحوث الزراعية والاستثمارات في مجالي النقل والاتصالات.

وسيختلف أثر انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية لا فحسب بين المحاصيل، بل أيضا بين المناطق وفقا لميزتها النسبية من حيث الإنتاج الزراعي والسياسات الحكومية. وقد يولي اهتمام خاص لهذا الأثر الإقليمي المتمايز عند إعادة توجيه الدعم إلى القطاع الزراعي، لاسيما في ما يتعلق بأشد المناطق الريفية فقرا.

ويبدو أن التحولات التي حدثت مؤخرا في الدعم الحكومي لتعزيز الإنتاجية الزراعية تشير إلى أن التغييرات على مستوى السياسات قد بدأت بالفعل. فعلى سبيل المثال، زاد الإنفاق الحكومي بالقيمة الحقيقية على البحوت الزراعية سنويا بنحو 10 في المائة في أواخر التسعينات من القرن العشرين، مع تزايد الاستثمار العام في التكنولوجيا الحيوية النباتية بمعدل أسرع حتى من ذلك (71) .

التكيف الهيكلي الزراعي وسياسات الاقتصاد الكلي

التكيف الهيكلي الزراعي يمثل أولوية على مستوى السياسات في الصين.

أصبح التكيف الهيكلي الزراعي هدفا رئيسيا من أهداف سياسة الحكومة في عام 2000 ثم أعيد التشديد عليه في عام 2001. ويشمل ذلك تغييرات هيكلية بين السلع الزراعية، وتحسين جودة السلع الرئيسية، وتعزيز التخصص الإقليمي. وهذه التوجهات الجديدة للسياسات، التي تعتبر جزئيا نتيجة لجهود الصين الرامية إلى التهيؤ لانضمامها إلى عضوية منظمة التجارة العالمية، يشار إليها على أنها "التكيف الاستراتيجي للبنية الزراعية" (72) . وتتضمن السياسات والتدابير الرئيسية لدعم هذه التكيفات كثيرا من الإجراءات التي نوقشت أعلاه.

ويتمثل توجه السياسات في إعادة بدء إصلاحات تسويق الحبوب وإعادة توجيه جزء من توزيع موارد الحكومة لنقلها من القطن والأغذية الأساسية من الحبوب نحو السلع التي توجد فيها للصين ميزة نسبية، من قبيل محاصيل البستنة، وكذلك تعزيز التخصص الإقليمي. ويتمثل القصد في الاعتماد بدرجة أكبر على التدابير غير المباشرة التي تتوافق مع منظمة التجارة العالمية: وهي تحسين التكنولوجيا، والاستثمار في البنية الأساسية، وتهيئة بيئة مؤسسية واقتصادية مواتية.

ومن الممكن أن يكفل عدد من السياسات التحول الهيكلي للزراعة وأن يدعم قدرة الصين على المنافسة بعد انضمامها إلى عضوية منظمة التجارة العالمية، مع أن هذه السياسات لا تخضع لسيطرة أولئك الذين يتحملون مباشرة مسؤولية الزراعة. ويجب على المنتجين الزراعيين زيادة حجم عملياتهم. وهذا يتطلب انتقال أعداد من اليد العاملة إلى القطاع غير الزراعي، بوجه عام، وإلى المناطق الحضرية، بوجه خاص. ومن ثم فإن السياسات التي تعزز حركة اليد العاملة ستفيد أيضا الدخل والإنتاج الزراعيين. وهذا ينطوي على تشجيع سياسات العمالة التي تفضي إلى زيادة التحضر، وتنمية المناطق الريفية وسوق اليد العاملة (بإزالة المعوقات التي تقف في طريق توسع المؤسسات الصغيرة في المناطق الريفية). وقد يكون التركيز بوجه خاص على أشد المناطق الريفية فقرا له ما يبرره هنا أيضا.

الاستنتاجات

لقد بدأت الصين تعد نفسها بالفعل لبيئة ما بعد الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. فقد انخفضت المعدلات الجمركية. وتم تعديل قوانين ولوائح كثيرة. وحدث تحول في أولويات الاستثمار؛ وتغيرت الاستراتيجيات فيما يتعلق بالسياسات. وتتاح للحكومة خيارات كثيرة في هذه الصدد. فحتى بالرغم من أن بروتوكول منظمة التجارة العالمية الذي وافقت عليه الصين يفرض قيودا على أفعالها، مازال باستطاعة السلطات الصينية القيام بدور فعال في مساعدة قطاع مزارعيها. وسيكون من بين أوضح وأهم أنشطتها زيادة الدعم من خلال الاستثمارات في تعزيز الإنتاجية التي لا تقيدها منظمة التجارة العالمية، مثل الإنفاق على البحوث الزراعية، وبناء الطرق، وإقامة شبكات معلومات على نطاق البلد، فضلا عن تعزيز قدرة الصين على تطبيق الحواجز التقنية للتجارة والتدابير الصحية وسلامة النبات وما يرتبط بهما من معايير.

وحتى بعد هذه الاستثمارات سيظل المجال متسعا إلى حد ما أمام الصين، على الرغم من قيود الموارد المالية، لتعزيز قطاعات معينة. ومع أن القطاعات الكثيفة الاستخدام للأراضي قد تواجه صعوبات، فإن للصين ميزة نسبية في سلع كثيرة، منها البستنة والفاكهة والماشية والأحياء المائية، تجعلها قادرة على منافسة المنتجات المستوردة، بل وحتى صالحة للتصدير.

والأهم جوهريا هو أن استجابة الحكومة لمنظمة التجارة العالمية تنطوي على تحول كامل في النموذج- من المشاركة المباشرة في الاقتصاد إلى دور تنظيمي مباشر بدرجة أكبر. وهذا ينطوي على إقامة مؤسسات لإنشاء منافع عامة وإدارتها بفعالية، ولتنظيم الأسواق تصحيحا لإخفاقات السوق الطبيعية. ووجود سياسة حكومية فعالة ومتعددة الأوجه يمكن أن يتيح للصين أن تستفيد إلى أقصى حد من الفوائد وأن تقلل إلى أدنى حد من عواقب هذا التحول.

الهوامش

  الصفحة السابقة اعلى هذه الصفحةلصفحة المقبلة