أحدث السيد Josué de Castro وكتابه بعنوان "الجغرافيا السياسية للجوع" تغييرًا في آراء العالم بشأن الجوع وأثّر في السياسات الغذائية العالمية إلى يومنا هذا. وكان السيد De Castro قد شغل منصب الرئيس المستقل لمجلس منظمة الأغذية والزراعة من عام 1951 إلى عام 1955. ©FAO
تخيّلوا عالمًا يعيش ثلثا سكانه في حالة من الجوع، في حين أنّ بعض المزارعين يتلقون الأموال من أجل إتلاف محاصيلهم حين يكون الإنتاج غزيرًا. وتتمثل وجهة النظر السائدة في هذا العالم في أنّ الجوع المزمن هو إمّا حتمي - بسبب ظروف طبيعية غير مؤاتية - أو نتيجة الاكتظاظ السكاني. وقد كتب السيد Thomas Malthus في عام 1798 مقالة عن مبدأ السكان تفترض أنّ نمو السكان المتواصل سيؤدي حتمًا إلى الفقر والجوع، وهي لا تزال سائدة في الساحة الفكرية.
ذلك كان العالم الذي عاش فيه السيد Josué de Castro حين نشر كتابه المؤثر بشأن الجوع في البرازيل، بعنوان "جغرافيا الجوع" (The Geography of Hunger)، في عام 1946. وأتبعه بكتاب ثانٍ حمل عنوان "الجغرافيا السياسية للجوع" (Geopolitics of Hunger) جرت ترجمته إلى عشرات اللغات وأثّر في السياسات الغذائية العالمية إلى يومنا هذا.
وبعد أن شهد السيد De Castro الجوع بأمّ عينه من خلال تجواله في الأحياء الفقيرة في موطنه البرازيل، قام بقلب المعارف التقليدية رأسًا على عقب. وحين جرى نشر عمله في نيويورك في بداية خمسينات القرن الماضي، ذكر أحد مستعرضي الكتب أنّ السيد De Castro قدّم "ادعاءً مذهلًا مفاده أنّ سوء التغذية هو السبب الكامن وراء الاكتظاظ السكاني، وليس نتيجة له".
واعتبر كتابه أنّ الجوع لا يمكن أن يكون نتيجة الاكتظاظ السكاني، لأنّ هذه الظاهرة كانت منتشرة بالفعل بدرجة هائلة قبل الانفجار الديمغرافي الذي حدث في مطلع القرن العشرين. بل على النقيض من ذلك، أدرك السيد De Castro أنّ الجوع هو ظاهرة من صنع الإنسان، وبالتالي يمكننا السيطرة عليه.
وقد ساعدته هذه الثورة على غرار الثورة التي أحدثها كوبرنيكوس على أن يحظى بمقعدٍ رئاسي في مجلس منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (المنظمة)، وهو الجهاز الرئاسي التنفيذي الذي يشرف على برنامج عمل المنظمة وميزانيتها. وجرى انتخاب السيد De Castro لمنصب الرئيس المستقل للمجلس في ديسمبر/كانون الأول من عام 1951، وشغل منصبه هذا أثناء دورة كاملة للمجلس في يونيو/حزيران من عام 1952 منذ أكثر من سبعين عامًا. وتصادف هذه السنة الذكرى الخمسين لوفاته.
وقال السيد شو دونيو، المدير العام للمنظمة: "دعونا نتذكر، بمناسبة إحيائنا للذكرى الخمسين لوفاة هذا الرائد، أنّ تحديات الجوع وسوء التغذية التي دافع عنها طوال حياته، لا بد لنا من معالجتها اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى في تاريخنا، طالما ما زلنا أحياء".
اعتبر السيد De Castro أنّ الجوع هو ظاهرة من صنع الإنسان، وبالتالي يمكننا السيطرة عليه. وكانت تلك الأفكار هي الأسس التي قام عليها قدر كبير من العمل الذي نفذته المنظمة والمجتمع العالمي في سبيل القضاء على الجوع. الصورة إلى اليمين: FAO/Alan Glanville©، الصورة
وكانت أفكار السيد De Castro وخواطره وقيادته في هذا المنصب هي التي مهدت الطريق أمام إنشاء برنامج
Fome Zero (القضاء التام على الجوع)، الذي جرى تنفيذه بنجاح في البرازيل في مطلع الألفية الثانية.
وقال السيد جوزيه غرازيانو دا سيلفا، المدير العام السابق للمنظمة الذي اضطلع بدور رئيسي في تنفيذ برنامج القضاء على الجوع في البرازيل: "تكمن المساهمة الرئيسية التي قام بها السيد Josué de Castro في قوله إنّ الجوع ليس مسألة من صنع الطبيعة، بل من صنع الإنسان". ويشير إلى المقال الأول الذي نشره السيد De Castro في عام 1935، والذي ذكر فيه أنّ المشكلة في البرازيل "ليست عدم توفر الأغذية، بل عدم توفر المال اللازم لشرائها".
ويضيف السيد غرازيانو دا سيلفا: "هل ساعدت أفكاره على إنقاذ ملايين الأرواح على مرّ السنين الماضية؟ أعتقد أنّ الجواب هو نعم".
جامعة المانغروف
وُلد السيد De Castro في أسرة من الطبقة المتوسطة في مدينة ريسيفي، بيرنامبوكو، الواقعة في شمال شرق البرازيل، في 5 سبتمبر/أيلول 1908. ودرس الطب في كلية الطب الوطنية في البرازيل في مدينة ريو دي جانيرو، وعاد بعدها إلى مدينته ليصبح أستاذًا في الفيزيولوجيا في كلية ريسيفي للطب.
وبينما كان يجري بحثًا بشأن ظروف الأغذية والسكن في أحياء الطبقة العاملة في العاصمة بيرنامبوكو، استنتج أنّ المجاعة هي كارثة اجتماعية ناجمة عن الهياكل الاقتصادية والاجتماعية القائمة.
وكانت كلماته كالتالي: "لم أكن في جامعة السوربون أو في أي جامعة مميزة أخرى حين أدركت وجود ظاهرة الجوع. بل إنها تجلّت أمام عيني في مناطق غابات المانغروف الواقعة في كابيباريبي، وفي أحياء ريسيفي البائسة وهي: أفوكادوس وبينا وسانتوس أماروس وإلها دو ليتي. تلك كانت جامعتي، تلك كانت السوربون التي درست فيها".
وفي عام 1935، انتقل السيد De Castro إلى مدينة ريو دي جانيرو حيث درّس فيها مادة علم الإنسان وبدأ مساره المهني في الخدمة العامة، الذي أبرز في نهاية المطاف نشاطه ضد الجوع حين أصبح عضوًا في البرلمان البرازيلي ودبلوماسيًا مرموقًا في الساحة الدولية.
ويشير كتابه الجغرافيا السياسية للجوع إلى أنّ الجوع هو وليد اختلالات تسبب بها نموذج تنمية اقتصادية قام على تسخير الفقراء واستبعدهم تمامًا من التمتع بمنافعه. وقد حاز بفضل عمله على جائزة مؤسسة Franklin D. Roosevelt Foundation وجائزة السلام الدولية. كما جرى ترشيحه أيضًا لجائزة نوبل للسلام عدة مرات.
توفي السيد De Castro في باريس عام 1973، عن عمر يناهز 65 عامًا.
حذّر السيد De Castro من أنّ إمكانية الوصول إلى الأغذية وتوزيعها هما تحديان رئيسيان ماثلان أمام حلّ مشكلة الجوع في العالم. وتواصل المنظمة اليوم السير على هذا النهج من أجل جعل النظم الزراعية والغذائية أكثر شمولًا وكفاءة وقدرة على الصمود واستدامة، خاصة في وجه تفاقم أزمة المناخ. ©FAO
إرث السيد De Castro في منظمة الأغذية والزراعة
حين تقلّد السيد De Castro زمام منصب الرئيس المستقل لمجلس المنظمة، كان يوجّه ممثلي الأعضاء في المنظمة إلى عدم الاقتصار على مناقشة توفر الأغذية فقط، بل مناقشة إمكانية الحصول عليها أيضًا. وفي إحدى الدورات، أعرب المجلس عن "خيبة أمله إزاء التقدم البطيء في رسم خطط التنمية الوطنية المتعلقة بالزراعة وفي إطلاق مشاريع مصممة لتضييق الفجوة بين الطلب العالمي على الأغذية والإمدادات المتاحة".
أما اليوم فتركّز المنظمة على جعل النظم الزراعية والغذائية أكثر كفاءة وشمولًا وقدرة على الصمود واستدامة، من دون ترك أي أحد خلف الركب، في وجه أزمة المناخ المتنامية.
وهذه مسائل كان السيد De Castro ضليعًا فيها في الأساس قبل 70 عامًا من الآن.
فقد قال بنفسه في خطاب ألقاه في المجلس عام 1952: "إنّ الغرض من منظمة الأغذية والزراعة هو الكفاح ضد الاضمحلال الفظيع الذي يصيب الإنسان والحضارة الإنسانية بسبب الجوع، وهو اضمحلال يهدّد بمحي كل الصروح الضخمة التي بناها الإنسان من على وجه الأرض".
وخلال دروة المجلس التي عقدت في ديسمبر/كانون الأول 2023، تم الاحتفال بالذكرى السنوية الخمسين لوفاة السيد De Castro، بإطلاق كتاب بعنوان " Josué de Castro and the Diplomacy of Hunger" من إعداد السيد غرازيانو دا سيلفا، وسعادة السفيرة Carla Barroso Carneiro، ممثلة البرازيل لدى منظمة الأغذية والزراعة، والسيد Saulo Ceolin، ديبلوماسي برازيلي. وإنّ هذا الكتاب الجديد، الذي أنتجته مؤسسة Alexandre de Gusmão التابعة لوزارة الشؤون الخارجية في البرازيل، يثبت أن عمل السيد De Castro ما زال مرجعًا هامًا في ما يتعلق بتداعيات الجوع الاجتماعية والبيئية.
وتوجّه السيد شو دونيو، المدير العام للمنظمة إلى المجلس قائلًا: "إنها بالفعل المساهمات التاريخية كهذه التي ألهمتني للشروع في مشروع المتحف العالمي للأغذية والزراعة هنا في المنظمة. وبينما يتعين علينا أن ننظر إلى المستقبل، مسترشدين بالتفكير المبتكر والاستشرافي، علينا أيضًا أن ننظر إلى الماضي، إلى أصلنا وأحلام وتطلعات النساء والرجال الذين سبقونا الذين وضعوا أسس المنظمة التي لدينا اليوم. وكان السيد Josué de Castro أحد هؤلاء الرجال".
للمزيد من المعلومات
الموقع الإلكتروني: الجوع وانعدام الأمن الغذائي
الموقع الإلكتروني: معلومات عن منظمة الأغذية والزراعة: لمحة تاريخية