Food and Agriculture Organization of the United NationsFood and Agriculture Organization of the United Nations

معجزة بركانية في جزيرة لانزاروت


نظام زراعي فريد، وُلد من رحم الثورات البركانية والجفاف، ليشكّل تراثًا زراعيًّا حيًّا في إسبانيا.

Share on Facebook Share on X Share on Linkedin

في القرن الثامن عشر، ثار أكثر من 30 بركانًا في جزيرة لانزاروت، في إسبانيا، مدمّرةً أراضيها الزراعية. غير أنّ المزارعين المحليين تكيّفوا مع الواقع الجديد، وابتكروا نظامًا زراعيًّا فريدًا، لا يزال يؤمّن الغذاء لسكان الجزيرة حتى اليوم. FAO/Lis Sánchez©

23/10/2025

للوهلة الأولى، لا يوحي المشهد البركاني في لانزاروت، إحدى جزر الكناري في إسبانيا، بأي مظهر من مظاهر الخصوبة. فالجزيرة قاحلة ووعرة، تغطيها طبقات من الحصى البركاني الأسود الناعم، التي تراكمت عقب ثورات بركانية هائلة شهدتها المنطقة قبل ما يقارب ثلاثة قرون.

غير أنّ نظرة متمعنة تكشف حكاية مختلفة تمامًا؛ فمن بين حُفر الرماد البركاني الأسود، تنبثق براعم خضراء لكروم العنب، وتزدهر محاصيل الفراولة والبطاطا الحلوة في تربة تبدو خالية من الحياة.

وتوضّح السيدة María Guerra Martín، وهي مزارعة تبلغ من العمر 24 عامًا من بلدية تيناخو (Tinajo)، الواقعة وسط غرب لانزاروت، قائلة "إن ما نراه هنا أشبه بمعجزة صغيرة. تبدو هذه التربة قاحلة تمامًا، لكنها تساعد محاصيلنا على النمو بشكل رائع".

قدرة على الصمود في وجه الدمار

بين عامي 1730 و1736، ثار أكثر من 30 بركانًا في لانزاروت، فطمرت ربع مساحة الجزيرة تحت الحمم والرماد، ما أدى إلى تدمير أكثر أراضيها الزراعية إنتاجًا. وبعد عقود قليلة فقط، حطّ الجفاف رحاله، ولم يغادر الجزيرة منذ ذلك الحين. واليوم، لا يبلغ عدد الأيام الماطرة في لانزاروت سوى 16 يومًا في السنة تقريبًا، بمتوسط هطول يقلّ عن 150 مليمترًا سنويًّا.

وبدلًا من الاستسلام للوضع الجديد، اختار المزارعون التكيّف معه. وتعلّموا من محاولاتهم لإدارة أراضيهم، مستندين إلى معارف تقليدية تناقلتها الأجيال. وبعد محاولات عديدة وكبوات متكررة، طوّروا نظامًا زراعيًّا فريدًا لا يزال يؤمّن الغذاء لسكان الجزيرة حتى اليوم، دون أي اعتماد يُذكر على الري.

ويشرح السيد Juan Cazorla، الخبير الفني في محمية لانزاروت للمحيط الحيوي، بالقول "لقد كان على المزارع في لانزاروت أن يتقبّل حقيقة أن هذه هي الموارد الجديدة، وأن هذه هي التربة الجديدة، وأن الزراعة لا بد أن تستمر".

غطاء من الرماد البركاني: إثراء للتربة

من بين أكثر الممارسات الزراعية تميّزًا في الجزيرة، ثمة نظام التغطية بالرماد البركاني، المعروف محليًّا باسم إنارينادو (Enarenado). إذ يقوم المزارعون بتغطية سطح التربة بطبقة من الرماد البركاني والحصى الصغير. وتُعرف هذه الطبقة محليًّا باسم روفي (Rofe)، وتعمل على حبس الرطوبة، وحماية الجذور، والحد من تبخّر المياه.

وتُظهر دراسات علمية أن طبقة روفي لا تحافظ على الرطوبة فحسب، بل تمدّ أيضًا التربة بمعادن أساسية تُساهم في إثرائها. وقد أثبتت هذه التقنية نجاحها مع محاصيل، مثل كروم العنب، والبقوليات، والبطاطا الحلوة.

ويوضّح السيد Juan Cazorla قائلًا "لقد شكّلت ثورة زراعية. فلم يقتصر دورها على صون المحاصيل - بل ساهمت أيضًا في زيادة التنوع البيولوجي الزراعي مقارنةً بما كان عليه الحال قبل الثورات البركانية".

تكيّف صنف العنب المحلي مالفازيا فولكانيكا (Malvasía Volcánica) مع الظروف القاسية في جزيرة لانزاروت، باتباع تقنية زراعية تقوم على بناء جدران حجرية نصف دائرية حول الكروم، لحمايتها من الرياح القوية. FAO/Lis Sánchez©

الزراعة بالتغطية الرملية: رطوبة تحملها الرياح

في منطقة تيناخو، يعتمد المزارعون أيضًا على نظام التغطية بالرمال، باستخدام طبقة من الرمال البحرية العضوية الناعمة، المعروفة محليًّا باسم خابليه (Jable)، وهي رمال تحملها إلى الجزيرة الرياح التجارية التي تهبّ من المحيط الأطلسي. وتُشكّل هذه الرمال الخفيفة طبقة عازلة تحفظ رطوبة التربة تحتها.

وتُعدّ السيدة María Guerra Martín واحدة من الكثير من المزارعين الذين يستخدمون رمال البحر لزراعة مجموعة مدهشة من المحاصيل- كالبطاطا الحلوة، والبقوليات، والفراولة- دون ري تقريبًا، إذ تساعد طبقة الرمال على احتفاظ التربة بما تتلقّاه من مياه.

لا خيريا (La Geria): إعادة ابتكار كروم العنب

تقع أكثر المناظر الطبيعية رمزيةً في لانزاروت في منطقة لا خيريا (La Geria) لإنتاج النبيذ، حيث تُزرع كروم العنب في حُفر عميقة في التربة البركانية. ويتم حماية كلّ كرمة من الرياح القوية بجدار حجري نصف دائري يُعرف باسم زوكو (Zoco)، ما يخلق مشهدًا فريدًا من الأقواس الممتدة على التلال.

وتزرع السيدة Ascensión Robayna، وهي صانعة نبيذ من الجيل الخامس، صنف العنب المحلي مالفازيا فولكانيكا (Malvasía Volcánica)، الذي تكيف مع هذه الظروف القاسية. ويشتهر نبيذها بدرجة حموضته العالية، ونكهاته الاستوائية، وروائحه العطرية، بالإضافة إلى مذاقها المالح المميز بفضل التربة البركانية للجزيرة.

وتعبرّ بالقول "علينا إظهار امتنان عميق للأجيال السابقة؛ فقد تركت لنا إرثًا ثمينًا. من كان يتخيّل أنه بالإمكان زراعة العنب، دون ري، في مكان كهذا؟".

تراث زراعي يحظى باعتراف عالمي

في الوقت الراهن، تغطي هذه الممارسات الزراعية التقليدية، من التغطية بالرماد البركاني، والتغطية برمال البحر، ونظام كروم لا خيريا، أكثر من 000 12 هكتار، ما مكَّن من إنتاج النبيذ والفواكه والحبوب والبقوليات في واحدة من أشد مناطق أوروبا جفافًا.

وفي مايو/أيار 2025، اعترفت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (المنظمة) بالنظام الزراعي في لانزاروت باعتباره واحدًا من نُظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية. ويأتي هذا التصنيف تكريمًا لجهود الجزيرة في صون التنوع البيولوجي وتطبيق ممارسات زراعية مستدامة، بالإضافة إلى دورها في تعزيز الأمن الغذائي وسبل العيش.

وتقول السيدة Piedad Martín، نائبة مدير مكتب تغيّر المناخ والتنوع البيولوجي والبيئة في المنظمة، "لانزاروت خير مثال على القدرة على التكيّف مع الظروف القاسية؛ فقد تطوّر الناس وتطوّرت الممارسات هنا بطريقة جميلة ومستدامة".

في مايو/أيار 2025، اعترفت منظمة الأغذية والزراعة بنظام جزيرة لانزاروت، باعتباره واحدًا من نُظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية. ويوجد حاليًّا نحو 100 نظام من نُظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية في 29 بلدًا. FAO/Lis Sánchez©

حركة عالمية من أجل زراعة قادرة على الصمود

لقد انضمت لانزاروت اليوم إلى شبكة المنظمة لنُظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية، والتي تضم أكثر من 100 نظام زراعي فريد في 29 بلدًا؛ بدءًا من زراعة المتة تحت ظلال الأشجار في البرازيل، ونظام ميتيبانتل الزراعي العريق في تلاكسكالا (Tlaxcala) بالمكسيك، وصولًا إلى النظامين العريقين لزراعة بساتين الإجاص والشاي الأبيض في الصين.

وتجمع هذه النظم عوامل مشتركة: فهي تحافظ على المعارف التقليدية، وتدعم التنوع البيولوجي، وتساعد المجتمعات الريفية على الازدهار، حتى تحت ضغوط تغيّر المناخ.

وتوضّح السيدة Robayn قائلة "إنّ إدراج لانزاروت ضمن قائمة نُظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية يحمي معارفَ لا تهمّنا نحن على هذه الجزيرة فحسب، بل تهمّ العالم بأسره؛ إذ نواجه جميعًا تحدّي إنتاج الأغذية في ظل ظروف مناخية تزداد قساوةً".

ورغم أن لانزاروت معروفة على نطاق واسع بمناظرها البركانية الخلّابة، وشواطئها المشمسة، وكوجهة سياحية، فإن للجزيرة حكاية أعمق- حكاية عن معارف توارثتها الأجيال، وابتكارات، وقدرة على الصمود. وبفضل اعتراف المنظمة، بات التراث الزراعي الحي في لانزاروت يحظى باهتمام عالمي متزايد، ليبرهن أن خلف جمالها مثالًا قويًا على كيفية تحقيق التكامل بين الطبيعة والثقافة والمجتمع من أجل الازدهار في أكثر البيئات صعوبة.